في بداية عام 2025، عادت الشوارع التونسية لتحتضن صدى الغضب الشعبي، حيث سجّل المرصد الاجتماعي التونسي 1132 تحركًا احتجاجيًا خلال الربع الأول وحده، بزيادة بنسبة 38% مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق. هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات لا تمثل فقط رقمًا إحصائيًا، بل هي انعكاس صارخ لحالة اجتماعية واقتصادية مأزومة، ولتوقٍ جماعي نحو العدالة والحرية والعيش الكريم.
تقول "ريم سوودي"، الصحفية وممثلة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تصريح لإذاعة Son FM:
"ارتفاع نسق ونسبة الاحتجاجات متوقع منذ الثلاثية الرابعة لسنة 2024 وتوجه التحركات الاحتجاجية نحو التصاعد."
وتضيف:
"الدافع نحو التحرك الاحتجاجي هو تحقيق المطلب والحلم بتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي".
لم تكن هذه الاحتجاجات وليدة لحظة أو ظرف عابر، بل جاءت نتيجة تراكمات، تغذيها الوعود السياسية غير المنجزة، وتؤججها الخطابات الرسمية، لا سيما خطاب رئيس الجمهورية، والذي تعتبره سوودي "الدافع والمحفز لخروج الفعل الاجتماعي نحو الشارع".
نصف هذه التحركات قادها العمال والموظفون في مطالب اقتصادية واجتماعية صرفة، وفقًا للمنتدى التونسي، في حين ركّز الربع منها على الحقوق والحريات، بمشاركة نشطة من الطلبة والصحافيين والناشطين الحقوقيين وحتى السجناء. من جهة أخرى، شهدنا تصاعد الاحتجاجات المتعلقة بسوء أوضاع السجون، والانتهاكات القضائية، وهي مؤشرات خطيرة على تراجع مؤسسات العدالة وحقوق الإنسان.
كما شهدت العاصمة تونس تحولًا في مركز ثقل الاحتجاجات، بعد أن كانت المناطق الداخلية هي البؤر الساخنة. تقول سوودي:
"انتقلت التحركات من الجهات الداخلية أو المناطق 'الساحنة' إلى العاصمة 'المركز' بسبب مستوى التفاعل بين السلطة والفعل الاجتماعي، الذي يعتبر محدداً لموقع الحراك الاجتماعي".
حتى المطالب البسيطة، مثل توفير مياه الشرب أو تحسين البنية التحتية في المؤسسات التعليمية، أصبحت تُرفع مباشرة إلى رئيس الجمهورية، كما في حادثة وفاة ثلاثة تلاميذ إثر سقوط جدار في معهد المزونة، والتي فجّرت موجة من الغضب الشعبي.
من الاحتجاج إلى إعادة رسم العلاقة مع الدولة
لا يمكن فصل هذا الحراك المتصاعد عن السياق السياسي الأوسع في تونس، حيث تعيش البلاد منذ سنوات على وقع توتر متزايد بين السلطة والمجتمع المدني، وتراجع في منسوب الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فالمطالب لم تعد تقتصر على تحسين الوضعية الاقتصادية أو الاجتماعية، بل امتدت لتشمل قضايا الحرية، المحاسبة، والحق في العدالة، وهي مؤشرات تدل على تطور الوعي الاحتجاجي وعمق الأزمة الهيكلية التي تمر بها البلاد.
إنّ أحد أبرز تحوّلات المشهد الاحتجاجي التونسي، كما تكشفه الأرقام والمعاينات الميدانية، هو انتقال مركز الحراك من المناطق الداخلية نحو العاصمة، في عملية يمكن قراءتها كتعبير عن الرغبة في التأثير المباشر على مراكز اتخاذ القرار. وهذا الانتقال يعكس إدراكًا شعبيًا متزايدًا بأن التغيير الحقيقي يتطلب المواجهة مع المركز السياسي.وتتابع سوودي: "نحن إزاء مركزة للقرار؛ فرئيس الجمهورية هو فقط من يقرر ومن يأذن ومن يسوي الوضعيات".
في المقابل، تظهر مجموعات مهنية مستقلة أو حركات مطلبية فئوية، إلى تحوّل في أدوات التعبير الاجتماعي. إذ لم يعد كثير من التونسيين يعوّلون على الأطر الوسيطة الكلاسيكية، بل باتوا يتوجهون مباشرة إلى السلطة التنفيذية، وتحديدًا إلى رئيس الجمهورية، باعتباره "صاحب القرار الوحيد".
الطريق إلى الأمام: استماع حقيقي أم إدارة للأزمة؟
في ضوء هذا الواقع، تبدو تونس أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تُستَقبل هذه الاحتجاجات كفرصة لإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، عبر مقاربة جديدة تقوم على الحوار، والاستماع، والتنمية العادلة؛ أو أن يتم التعاطي معها كأزمة أمنية أو ظرفية، ما سيؤدي إلى مزيد من الانفجار الاجتماعي لاحقًا.
فالاحتجاج في تونس لم يعد مجرد ردة فعل آنية، بل أصبح وسيلة تواصل شعبية، تلعب فيه وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مركزيًا في نقل صوت المهمشين وتنظيم الغضب. وفي هذا السياق، على صناع القرار أن يدركوا أن معالجة الأسباب العميقة لهذه التحركات لم تعد تحتمل التأجيل.
الاحتجاج كلغة مستمرة للغضب الشعبي
مع كل تحرك احتجاجي جديد، تتجدد الأسئلة القديمة: هل استجابت الدولة لمطالب شعبها؟ هل تغيّر شيء فعلاً؟ أم أننا أمام مشهد يعيد إنتاج نفسه في دائرة مغلقة من الوعود المؤجلة؟
وتختتم السوودي: "1132 تحركاً احتجاجياً ليس رقماً مرتفعاً جداً بالنسبة لنسق احتجاجي تصاعدي وحالة من الغضب والاحتقان وعدم الرضى".
ربما يكون عدد الاحتجاجات 1132، لكنّ خلف هذا الرقم، هناك آلاف القصص الفردية، والآمال المكسورة، والأحلام المؤجلة. وما لم يتم تحويل هذا الغضب الجماعي إلى إصلاحات ملموسة، فإن الشارع سيظلّ هو المكان الوحيد المتاح للمطالبة بحقوق طال انتظارها.