يعود طرح المواضيع المُرتبطة بــ "الانتقال الطاقي" و "السيادة الطّاقية" في تونس بقوّة هذه الأيام، وذلك على إثر الوعود المتكرّرة و"الاستعدادات" التي يذكّر بها ممثّلو بعض الدول الاوروبية بصفة متواترة حول الاستثمار في تونس في مجال المياه والطّاقات المتجدّدة[1] وعقد شراكات في مجال الطّاقة تساهم في تحقيق الانتقال الطّاقي الأخضر في تونس [2].
إعلانات نوايا جاءت على إثر أزمة طاقية واجهها المواطن الأوروبي على خلفيّة الحرب الروسية الاوكرانية التي تعيش على وقعها القارّة والتي انطلقت السنة المنقضية.
وعُود تذكّرنا بشكل جديد من أشكال الاستعمار أو فلنقل "النيوكولونياليزم" بما انّه نابع عن نظام اقتصادي ليبرالي استخراجي لا ينفكّ عن تعميق الأزمات المناخيّة و الفوارق الإجتماعيّة، ولا يتوقّف عن انتهاك سيادة دول الجنوب ونهبها حتّى جعل من جميع محاولات إيقافه مُجرّد محاولات لتحسين ظروف العبوديّة.
يقول محدّثنا فاضل قابوب، وهو أستاذ الإقتصاد بجامعة دينيسون الأمريكية و رئيس المعهد العالمي للازدهار المُستدام أنّ ما يحصُل في تونس مردّه نظام عالمي يستنزف الموارد والقدرات الطبيعيّة لبلدان الجنوب على غرار تونس، فلو نظرنا في إجمالي المعاملات الماليّة السنويّة، سنجد أنّ بلدان الشمال تنتفع بـ 2 ألف مليار دولار من بلدان الجنوب. وهو رقم يفسّر بالاستعمار الذي لم يأت إلّا بغرض استنزاف الموارد الطبيعيّة للمستعمرات ولم يتقلّص بعد حصول الدول المستعمرة على استقلالها بل تطوّر على امتداد عشرين سنة من 500 مليار دولار الى 2000 مليار دولار ليتضاعف 4 مرّات تقريبا.
رقم سيستمرّ في الارتفاع ما لم تتغيّر المنظُومة الاقتصادية الماليّة العالميّة ذات المنحى الاستعماري وما لم نغُص في أصل المشاكل، على اعتبار أنّ أي حلّ اقتصادي (للديون وللتغيرات المناخيّة وغيرها) لا يُوجّه بطريقة مباشرة الى نقطة العجز الطّاقي، الغذائي والصناعي لدول الجنوب لن يُشكّل حلّا بل سيزيد من استنزاف الموارد و يعمّق العجز الهيكلي في الميزان الاقتصادي على امتداد السنين، بما أنّ العجز سيشكّل ضغطا على قيمة الدّينار مقارنة بالدولار و الأورو و يضعف من قيمته ممّا يرفّع في تكلفة المواد المستوردة من قمح و محروقات و غيرها...
يُضيف محدّثنا أنّ الحلول في يد بلدان الجنوب تتمثّل أساسا في استثمارات في السيادة الغذائية و الطّاقية البديلة و في تركيبة صناعية مختلفة، معتبرا أنّه من غير الممكن الخروج ممّا أسماه بـــ"الــفخّ الاقتصادي" بطريقة فرديّة، مُشدّدا على أنّه من الضّروري المرور بتعاون بين دول الجنُوب في المجال الطّاقي، الغذائي والصّناعي على اعتبار أنّ الحلول العالمية المقترحة تقضي على التعاون "جنوب-جنوب" وتُؤدّي حتما الى الوقوع في فخّ اقتصادي باستعمال القليل من "الغسل الأخضر" عادةً.
و بسؤاله عن جدوى السياسات العموميّة في تونس في علاقة بالأزمات العميقة التي تشهدها تونس في بُعدها الاقتصادي، الاجتماعي والبيئي، وعمّا إذا كان من الممكن إعتماد مفهوم "السيادة" في التخطيط ووضع السياسات العموميّة في الوقت الذي تتّصف فيه سياسات دول الجنوب بالتبعيّة لدول الشمال، أجاب فاضل قابوب بأنّ السيادة مفهوم مركّب لا يتوقّف عند امتلاك الدّولة لاقليم، شعب وحكومة بل يتجاوزها بكثير. ممّا يحيلنا على عناصر أخرى للسيادة، كالسيادة الطاقية، الغذائية، الماليّة النقديّة (..)، مشيرا الى انّه بعد الاستقلال انتهجت تونس سياسة نحو تدعيم سيادتها، لكن تبعه ردّ فعل معاكس من بلدان الشّمال رتّب حدّا من هذه السيادة. ففي علاقة بالسيادة الغذائية مثلا، كانت تونس و غيرها من الدول الافريقية تصدّر المواد الاساسية الغذائية لأوروبا زمن الاستعمار، إلّا أنّ رغبتها في التحرّر كلّيا بُعيد الاستقلال أدّى الى تبنّي السياسة الزراعيّة العامّة " Commun Agricultural Policy CAP" بين بُلدان الاتّحاد الاوروبي وذلك سنة 1962 والذي يُقرّ نظاما لدعم الفلّاح الاوروبي لانتاج المواد الاساسية حتى تتوفّر هذه المواد بأثمان أقلّ من المواد الافريقية، وهو ما لم تتبنّاه تونس كدولة من دول الجنوب، ممّا جعل أسعار الشعير عالميا في فترة الستينات في اوروربا امريكا و استراليا رخيصة جدّا مقارنة بسعره في تونس وفي افريقيا عموما ممّا جعل للفلاح حلّين لا ثالث لها: التخلّي عن نشاطه الفلاحي، اعلان افلاسه و التوجّه للعمل كيد عاملة غير مختصّة في المجال الصناعي مثلا، أو التوجّه نحو الزّراعات المُستنزفة للموارد المائية و انتاج مواد كالفراولة، البطّيخ والخسّ بدل انتاج المواد الاساسيّة (..) وكانت تلك الخطوة الأولى لفقدان السيادة الغذائيّة في تونس.
أمّا عن الخطوة الثانية فهي الارتباط الاقتصادي بأوروبا بتصدير هذه المواد الى المستهلك الاوروبي الذي يملي على دول الجنوب احتياجاته من هذه المواد، يصل حدّ تمكين فلّاحي دول الجنوب من البذور الاوروبية التي لا تتلاءم مع المناخ على اعتبار أنّها زراعات تحتاج الى أسمدة و مبيدات حشريّة مستوردة، نظرا لأن المُنتَجَ يُشترط أن يكون مثاليا من الناحية الجماليّة وقادرا على تحمّل الرّحلة من البلد المنتج الى وجهته النهائيّة، فضلا عن حاجته الى الكثير من الموارد المائيّة. وهو ما يجعل من اعتمادها عاملا للانقاص من القدرة الانتاجية للأراضي الفلاحيّة بسبب الاستخدام المكثّف للمبيدات الحشريّة والأسمدة التي تساهم في تدهور التربة و في انخفاض الانتاج على مدى سنوات مما يجبر الفلاحين على استيراد المزيد من الاسمدة لتصبح البذور اكثر قوة وأكثر حاجة الى المياه، والزيادة في عدد الاراضي الزراعية لتحقيق ارتفاع في حجم الصادرات.
ثمّ إنّ المُقلق في هذه المسألة يتجلّى في اعتبار انّه من أجل تعويض تراجع انتاجية الأراضي الزراعية، تحتاج هذه الاخيرة راحة لاستعادة انتاجيتها تستغرق اكثر من 7 سنوات من الانتاجية المتوقّفة، وهو أمر لا يمكن لأي فلّاح تحمّله.
وعلى كلّ حال، فإنّ تراكم هذه السياسات على امتداد ما يقارب 40 سنة أنتج فقدانا للسّيادة الغذائيّة من غير السّهل استرجاعها دون تخطيط و رؤية على المدى الطّويل، وهو ما أحالنا الى الحديث عن البدائل و التّساؤل عن المُتاح لدول الجنوب اليوم، في الوقت الذي تحتكر فيه دول الشمال التكنلوجيات والبُحوث والموارد المالية؟ ما عساها تفعلُ مع فقدان كل هذه العناصر مجتمعة؟
يرُدّ فاضل قابوب معتمدا في تحليله على النّموذج التّونسي وعلى عنصر السيادة الغذائيّة بالقول بأنّنا قد قمنا ببيعها بأفكار أجنبيّة لا تخدمُ مصلحة البلاد التونسية معتبرا أنّ أوّل إجراء يجب إتّخاذه يتمثّل في الاستثمار في الافكار التونسية واسترجاع بذورنا الاصلية وهو أمر ممكن على المدى القصير، وأنّ كلّ قنطار من القمح التونسي (غير المستورد) الذي يتم انتاجه في موسم فلاحي واحد يُوفّر أضعافه من العُملة الصعبة، وهو حلّ غير مستحيل من الممكن أن يُحدث تغييرا. وقس على ذلك في مجال الطّاقة بما أنّ كل كيلو وات من الطاقة الخضراء يقع انتاجها في تونس باستثمار تونسي توفر اضعافها من العملة الصعبة التي نحتاجها لاستيراد الطّاقة. مضيفا ان مثل هذه الحلول وغيرها تخلق تحولات هيكليّة و نتائج آنيّة وراديكاليّة تتّجه الى أصل المشكل بدل ترقيعه.
في الأثناء، ولدى التطرّق إلى البدائل وإمكانيات التغيير، هناك لاعب جديد يدعى "التغيرات المناخيّة"، فهل من الممكن اعتماد الأزمة المناخية كمدخل للنّضال لمراجعة قضايا الدّيون الاستعمارية والمناخية؟ ماذا يمكن أن نفعل إزاء نظام ليبرالي يعتمد على أنشطة الاستخراج التي دمّرت الكوكب وزادت في حدّة الأزمة الإجتماعيّة؟
يرى فاضل قابوب أنّ من المهم تسمية هذا النّظام بمسمّياته دون تبييض. فإذا ما كُنّا إزاء ديون مناخيّة أو ديون كريهة، لا بدّ من تسميتها بالديون المناخية او الديون الكريهة، كما أنه من الضروري بدأ المنقاشات مع دُول الشمال استنادا الى طبيعة هذه الديون، فإذا ما كانت كريهة لا يعقل ان يقع دفعها في آجالها دون تأخير، واذا ما كانت مناخية فمن غير المعقول طلب تمويلات للقيام بانتقال طاقي ومناخي لم تتسبّب دول الجنُوب فيه وذلك استنادا على مبدأ مفاده أنّ من يتسبب في التلوّث هو الذي يدفع وهي نُقطة انطلاق المناقشات التي يجدر البدءُ منها.
أمّا بسؤاله حول محاولة هذا النظام التأقلم، أجاب محدّثنا أنّ ذلك نتيجة طبيعية لـ "نظام القوّة" فكلّ من يمتلك القدرة على التأثير على النّظام السياسي على المستوى الوطني أو العالمي سيستعملها، وبالتالي ليس بالغريب ولا بالمثير للتعجّب أن نجد الشركات النفطيّة مثلا هي المسيطرة، فوفود شركات النفط في مؤتمر الأطراف من أكبر الوفود وبالتالي ليس من الغريب أن تكون الحلول المعتمدة صادرة ممّن يملك النفوذ.
في الأثناء، لابدّ من تجنّب الاستثمارات البتروليّة باعتبارها من الأصول المهجورة (stranded asset)، لأنّ من المتوقّع أن تصبح غير مجدية اقتصاديا قبل نهاية فترة حياتها المفترضة. وبالتالي فإن أي استثمار في هذا المجال سيصبح من الأصول المهجورة بعد مدّة بما أنّ العالم يتّجه نحو الطّاقة البديلة، تتحمّل تبعته دول الجنوب التي تغرق في اسثمارات من هذا الصّنف تلبية لاحتياجات اوروبا على المدى القصير في انتظار تحضير هذه الاخيرة لانتقالها الطاقي الشمسي و الهيدروجين الاخضر الذي يتّصف أيضا بتاثيراته السلبيّة الكبيرة.
أمّا بسؤاله عن التسويق للانتقال الطّاقي الأخضر في دول الجنوب ولانتاج الهيدروجين الاخضر بغاية التّصدير، يجيب فاضل قابوب بأنّ انتاج 1 لتر من الهيدروجين الأخضر يتطلّب من 28 الى 32 لتر من الماء الصّافي، وهي نسبة مهمّة جدّا بالنسبة لدول افريقية تعاني الجفاف، وبالنسبة لتحلية ماء البحر لاستعماله لانتاج الهيدرُوجين فهي أيضا آليّة تحتاج طاقة كبيرة لضخّ المياه، فضلا عن الملح الناتج عن عمليّة تحلية مياه البحر الذي يقع ارجاعه الى البحر و ينتج عنه قتل الاقتصاد الأزرق (..) اضافة الى ان ازدياد كمية الملح في البحر يستوجب طاقة أكبر لتحليته ولتصفية نفس كمية المياه و يرتب زيادة في الحرارة و آثارا سلبية على المحيط.
ولعلّ بناء على ما تقدّم من طرح، يصبح من المشروع التساؤل حول فائدة هذا النوع من الاستثمارات في تونس ودول الجنوب عامّة؟
يجيب على ذلك فاضل قابوب بالقول أنّه بالنظر الى الاستثمارات من أوروبا، يُقال أنّ جانبا منها سيكون موجّها للتّصدير، فيما يوجّه الجزء المتبقّي للاستغلال الوطني، وهو ما يمكن فهم عكسه باعتبار ان الشركة التونسية للكهرباء والغاز ستسعمل تلك الطّاقة لتصفية مياه البحر ممّا ينتج عنه تصدير %100 من الكهرباء الاخضر لأوروبا وهو ما يحيلنا من جديد لسيادة القرار و السيادة الاقتصادية لدول الجنوب، فإذا ما كانت السياسة الطاقية التي سيقع تطبيقها على التراب التونسي هي سياسة مصنوعة في اوروربا، تستعمل الأراضي التونسية والموارد المائية التونسية لمصلحة الاقتصاد الأوروبي فإنّ ذلك لا يعدّ مظهرا من مظاهر السيادة. و يؤكّد فاضل قابوب أنّه من الضّروري دخُول هذه النقاشات مع دول الشمال بطريقة تحمي سيادة القرار وتأخذ بعين الاعتبار الآثار الاقتصادية لهذه الاستثمارات على تونس. بالإضافة الى ان مواضيع الاتّفاق مع الطّرف الاوروبي والمتعلّقة بالهجرة، التبادل العلمي والتجاري فانه من الضروري التنبيه من الوقوع في نفس فخّ خيارات الستينات والسبعينات باعتماد استثمارات تعتمد على الصناعات التركيبيّة ولا ترتقي لاعتبارها استثمارات حقيقيّة على المدى الطّويل رغم توفيرها ليد عاملة و عملة صعبة على المدى القصير، مؤكّدا أنّ باب التبادل العلمي هو تبادل غير عادل وهو في حقيقة الامر سرقة للأدمغة، وتونس استنزفت موارد بشرية كبيرة في السنوات الاخيرة معتبرا أن من الضروري التفاوض بطريقة تحمي الموارد الطبيعية والبشرية التونسية، خصوصا و أن سرديّة المؤسسات الرسميّة تدّعي بأنّها تهتمّ بالسيادة الّا أنّها اتفاقات في جوهرها استعمار جديد واستنزاف للثروات على اختلافها، مُشيرا الى انّ الفرصة لا تزال سانحة لدخول مناقشات تدعّم السيادة الغذائية التّونسية والتّبادلات التجارية في المجال الطاقي بطريقة متوازنة وعادلة.
وبمناسبة الحديث عن التوجّه الجديد الذي اتخذته الحركات المناهضة لهذه السياسات التي توجّهت الى الاتّحاد مع النقابات العمالية والى تحرّكات أكثر حدّة، يقول فاضل قابوب ان التشديد في حدّة هذه التحرّكات متوقّع جدّا بسبب فقدانها للأمل ونظرا الى طبيعة التعامل الاعلامي معها ، ممّا دعا بعضها الى ايقاف الانتاج بقوّة في بعض الحالات حتى تُرى وتُسمع على النّحو المطلوب، لذلك لا يستغرب ردّة فعلها.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح "هل هناك من يلتقطُ رسائلها على المستوى السياسي؟" على كل حال ما نزال الى يومنا هذا نشهد حضور الشركات النفطية على طاولة القرار... إذ من المُفارقات أن يكون مؤتمر الاطراف 28 الذي سيقام في الامارات برئاسة شركة بترولية..
و في انتظار "التغيير الراديكالي" المنشُود .. ماذا عسانا نقُول غير أنّه "لا بدّ للنّظام الاستعماري أن يمُوت... حتّى نحيا"؟.