قدموا من مناطق مختلفة من الجمهوريّة.. محمّلين بلوحات وأعمال فنيّة كان بطلها الحرف العربي..
حروف أخذت من الورق والنحاس والخشب والبلور والقماش والرخام محملا.. وانسابت في تقنيات تفنن مبدعوها في الجمع بينها لتتآلف في ألوان سرّت أنظار زوار معرض الجائزة الكبرى لمدينة تونس للفنون التشكيلية بالفضاء الثقافي البلدي "سانت كروا" بالمدينة العتيقة..
وللمكان في هذه التظاهرة دلالة أخرى.. فقد احتفت جدران الكنيسة الكاثوليكية الرومانية القديمة بتقنيات رسم حديثة وبالحرف العربي والثقافة الإسلامية، وهي التي تزينت أركانها بحروف لاتينية تروي قصة جالية جاءت إلى تونس في القرن التاسع عشر، واستوطنت البلاد مبشرة بالمسيحيّة..
توليفة فريدة، لكنها في هذه المرة تبشّر بالفن وبإمتاع حواس الزوار المتعطشين لفن مستوحى من الخط العربي، فن الحروفيات الذي تستعمل فيه الحروف دون أن تؤدي بالضرورة إلى معنى.. فنّ جعل راضي القلاّل (زائر) يتنقل من ولاية نابل ليستمتع بجمال الخط الذي يحبّه، معربا عن انبهاره باللوحات ومناشدا الدولة والشباب الإهتمام بهذا الفن الراقي، وفق تصريحه لـ Son Fm.
المناسبة التي تنظمها سنويا بلدية تونس، "إيمانا منها بأهميّة المشهد التشكيلي في البلاد، وبمشاركة 72 فنانا من ذوي التكوين العصامي والأكاديمي"، وفقا لكاهية مدير الشؤون الثقافية ببلدية تونس، بسمة الماجري، كانت فرصة لتكريم ثلة من المبدعين التونسيين كالفنان الكبير نجا المهداوي الذي أقيمت هذه الدورة على شرفه، والذي اعتبر في تصريح لـ Son Fm أنّ الفن يعدّ نضالا، وهو ذو دور مهم في المجتمع.
نجا المهداوي، لم يكن المكرّم الوحيد في المعرض وإنّما كرمت لجنة تحكيم الجائزة، كلاّ من المبدع سمير بن قويعة، والفنان والخطاط عامر بن جدو الذي تعلّم الخطّ العربي بمفرده في أوقات فراغه منذ أن كان معلما يقطن ولاية سيدي بوزيد.
أمّا الجائزة الكبرى والتي تبلغ قيمتها عشرة آلاف دينار فكانت من نصيب الأستاذ والفنان التشكيلي، طارق السويسي، الذي تحدّث لـ Son Fm بكل عشق.. عن لوحته الفائزة "عشق" والتي قال إنّها نابعة من روحه ككل عمل فني ينجزه، ناهيك عن أنّ تسميتها ترجمت قصّة تجربة كاملة في الوله بالخط العربي والحروفيّة وفق تعبيره.
وقال السويسي إنّ الحروفية فضاء للإبداع بالحرف والتقنية، لكنّه ككل عمل تشكيلي مكلف وهو ما يثقل كاهل الفنان، الذي يخصص أموالا كثيرة لينتج أعماله دون أن يجد لذلك بالضرورة عائدا، ففي تونس لا توجد ثقافة تملّك العمل الفني، رغم أنّ الجمهور يمكن أن يستهلك فنونا أخرى كالموسيقى مثلا ويدفع من أجلها أموالا رغم أنّ استثمار مبدعيها في فنهم ماديا لا يضاهي ما يستثمره الفنان التشكيلي، على حدّ قوله.
وانتقد طارق السويسي، المركزية، في علاقة بالفنون، باعتبار أن المجال في العاصمة رغم محدوديته أرحب مقارنة بالجهات.
واعتبر الفنان نفسه محظوظا لأنّ عائلته لم تقبر موهبته وشجعته للانتقال من صفاقس إلى العاصمة لدراسة الفن الذي يخصّه كل يوم بخربشات صباحية، كما يحلو له تسميتها.
"عشق" السويسي لم يكن اختيارها سهلا من بين 74 عملا فنيا، فقد أعرب رئيس لجنة التحكيم والأستاذ بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل والمتخصص في الخط وفي الخزف "سامي الفقيه"، عن صعوبة الاختيار، نظرا لتميّز كل الأعمال المشاركة، لكنّ الضوابط العلمية التي تم الاتفاق بشأنها كانت الحاسمة، وتتمثل هذه الضوابط أساسا في مدى التمكن من الخط والحرف والتقنية ومدى توفر اللوحة على نفس تجديدي، ناهيك عن معيار الابتكار ومدى القدرة في التصرف في الحرف على مستوى تكوين اللوحة والألوان والتفاعلات والتشكلات اللونية التي تعطي الحرف فرصته للتجلي بمختلف خصائصه.
وكانت لجنة التحكيم قد تكوّنت، بالإضافة إلى الأستاذ والفنان التشكيلي سامي الفقيه، من أكاديميين وصحفيين هم، نزار مقديش، عضو اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين، والفنانة التشكيلية سعاد المهبولي والفنان التشكيلي ناجي الثابتي والصحفيتيْن حياة السايب وسعيدة بن زينب، ورغم ذلك فإنّ، عبد اللطيف الكوساني، الفنان التشكيلي والباحث في الجماليات، وأحد المشاركين في المعرض، أعرب لـ Son Fm عن عدم اقتناعه بنتيجة الجائزة الكبرى، متحدثا عن مدى الابتكار في عمله باعتباره استعمل الخط العربي للكتابة باللاتينية بواسطة النحاس.
مازالت فرصة زيارة هذا المعرض، الذي يقام كلّ سنة، وتأمّل الأعمال الفنية وابتياعها سانحة، باعتباره مازال متواصلا، إلى غاية موفى شهر جويلية القادم، ليتمكن زواره من التمتع بلوحات اجتهد مبدعوها في ايجاد صيغ وتعابير تشكيلية لإبراز قيمة الحرف في فعله التشكيلي وفي فعله الثقافي بكل ما يحمله من تناقضات جمعت بين الكلاسيكي والمعاصر.