يجاهد تلاميذ منطقة حاسي الفريد وبئر الحفي من ولايتي القصرين وسيدي بوزيد يوميا للوصول إلى مدارسهم ومعاهدهم، ويضطرون إلى ركوب "سيارات الموت" بسبب غياب النقل المدرسي.
على الرابعة صباحا ينطلق مشوار تلميذ الصف الرابع محمد 10 سنوات، الشاق والمحفوف بالمخاطر بمعتمدية حاسي الفريد من ولاية القصرين، يغير محمد ملابسه وتعد له أمه لمجة بما تيسر، ثم يغادر المنزل في حدود الرابعة ونصف، يسير مشيا على الأقدام في التضاريس الوعرة مسافة 04 كلم، وحال وصوله إلى الطريق الرئيسي تشتغل قرون استشعاره عله يظفر بسيارة " كنطرة " تقله فتجنبه عناء المشي لكيلومترات إضافية.
تقول رنيم 13 سنة المسافة الفاصلة بين منزلي ومحطة النقل المدرسي تقدر بـ 07 كلم كنت في السابق ملزمة بسيرها للوصول، أما الآن فأضطر إلى إيقاف سيارات "الكناطرية" والصعود معهم، فيما تشير صديقتها إلى أن السيارات الخاصة التي تمر من ذات الطريق ترفض نقلهم وتردف "كان الكناطرية يحبسولنا ويهزونا ".
يبدأ جهاد هؤلاء الأطفال منذ ساعات الصباح الأولى المظلمة وينتهي بعد سقوط الليل، يسيرون أكثر من 14 كلم يوميا ذهابا وإيابا للوصول لمحطة النقل المدرسي إن حالفهم الحظ ولم تتعطل فجأة الحافلة، وتتعاظم معاناتهم في فصل الشتاء.
الصعود في سيارات التهريب " الكنطرة " بما تمثله من مخاطر لا حدود لها على الطفولة، هي عادة دأب عليها تلاميذ حاسي الفريد وبئر الحفي الذين يقتنون في مناطق تجاهلتها خدمات وزارة التجهيز والإسكان.
ببراءة العالم يحدثنا محمد كيف تلقى قلب طفل صغير أعيته مشقة المشي لساعات تحت أشعة الشمس الحارقة وفي البرد القارس خبر اقتناء تونس لـ 300 حافلة مستعملة من فرنسا، ويقول كنت أشاهد الأخبار عندما أعلنوا عن اقتناء حافلات جديدة، " فيبالنا أحنا باش تجينا كار جديدة ياخي ما جتناش"، ظنت براءته أن المقتنيات ستوظف لسد ضعف النقل المدرسي في الأرياف المهمشة والفقيرة.
وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن حاسي الفريد هي المعتمدية الأكثر فقرا في الجمهورية التونسية، طبقا لمؤشرات التنمية الجهوية للمعهد الوطني للإحصاء، بسبب افتقارها لأدنى المقومات كالماء الصالح للشرب والبنية التحتية.
يؤكد مدير المدرسة الاعدادية بحاسي الفريد في حديثه مع SonFM أن الإدارة الجهوية للنقل بالقصرين ترفض تزويد منطقة حاسي الفريد بحافلات جديدة بسبب المسالك الريفية الوعرة والمنازل المتباعدة.
في الـ 4 من أكتوبر 2023 دعا رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال اجتماع جمعه بوزير التربية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي إلى ضرورة التنسيق الكامل مع وزير النقل والسلط الجهوية لتوفير النقل للتلاميذ الذين لا يجدون وسائل عمومية للنقل سواء في عدد من الولايات أو في تونس العاصمة مشيرا إلى ما يمثله النقل العمومي الجماعي من إخلال بالكرامة الإنسانية.
وتحدث الرئيس عن وجود 180 تلميذا في بئر الحفي وحاسي الفريد، محرومين من وسائل النقل المدرسي مؤكدا على ضرورة توفيرها، غير أن تصريحات الرئيس لم تغير من الواقع شيئا.
شعور بعدم "الانتماء"
بسبب ضعف المواصلات بنت الدولة مبيتات مدرسية في كل من حاسي الفريد وبئر الحفي، وعوض أن تمثل الحل كانت جزءا من الأزمة، " الشبابيك مكسرة والبرد يدخل، الضوء والماء ديما يقصوا، الماكلة شوي، ديما نباتوا جيعانين" هكذا وصف التلاميذ لـ SonFM معيشتهم في المبيت.
تصر سارة 11 سنة على أنه لا دخل لإدارة المبيت في "تجويعهم" وتقول " هوما ما مدخلهمش... من فوق يهبطولهم في السلعة ناقصة".
سياسة الدولة التقشفية طالت حتى أمعاء التلاميذ الصغار الخاوية، يرى الأستاذ في المعهد الثانوي ببئر الحفي عيسى الجبلي في حديثه مع SonFM أن أزمة الغذاء في مبيتات بئر الحفي وحاسي الفريد انطلقت منذ إحداث ديوان الخدمات المدرسية سنة 2016 ويؤكد أن ديون الديوان المتراكمة لدى المزودين هي السبب في نقص الوجبات المقدمة.
يشير الأستاذ عيسى الجبلي إلى أن رداءة وانعدام النقل المدرسي ووضعية المبيتات دفعت مئات التلاميذ في معتمديتي بئر الحفي وحاسي الفريد إلى الانقطاع المبكر عن الدراسة، وخلقت لديهم شعور بعدم الانتماء إلى المدرسة والدولة، ويقول "أبغض مبنى للتلاميذ هو المدرسة ".
خلال زيارتنا الميدانية، ردد كثيرا تلاميذ المدرسة الابتدائية بحاسي الفريد عبارات تدل عن" ضعف ثقتهم وإيمانهم "بالدولة، وعند سؤالنا عن أحلامهم ترددت كثيرا كلمات" نحبوا نحرقوا لأوروبا ".
الاستشارة" قفز" على الواقع
في 15 سبتمبر 2023 أطلقت وزارة التربية المنصة الإلكترونية المتعلقة بالاستشارة الوطنية لإصلاح النظام التربوي عن طريق سبر آراء المواطنين حول مقترحاتهم بشأن الإصلاح، وتتركز الاستشارة على 5 محاور كبرى وهي التربية في مرحلة الطفولة المبكرة والإحاطة بالأسرة، وبرامج التدريس ونظام التقويم والزمن المدرسي، والتنسيق بين أنظمة التربية والتكوين المهني والتعليم العالي والتكامل بينها، وجودة التدريس والتكنولوجيا الرقمية وتكافؤ الفرص والتعلم مدى الحياة، غير أن ضعف نسبة الإقبال دفع الوزارة إلى إجبار التلاميذ على المشاركة في إطار أيام مفتوحة.
يصف الأستاذ عيسى الجبلي الاستشارة الوطنية لإصلاح النظام التربوي بـ "ذر الرماد على الأعين" و "بالقفز على المشاكل الحقيقية" التي تعانيها المدارس التونسية.
ورغم حملات التحسيس والأيام المفتوحة التي أطلقتها وزارة التربية داخل المدارس والمعاهد لدفع التلاميذ نحو المشاركة في الاستشارة لم تتعد نسبة الإقبال وفق آخر تحيين على موقع الاستشارة 559 ألف مشاركة.
وتزامنا مع انتهاء آجالها اليوم 15 ديسمبر 2023 أكد مدير مكتب الإعلام في وزارة التربية منذر عافي في تصريح لـ SonFM أن خبراء في البيداغوجيا سيقومون ببناء مقاربات علمية بناء على آراء المشاركين في الاستشارة التي ستتيح صناعة نظم تعلمية حديثة تواكب التطورات العلمية والتكنولوجية.
في المقابل، يعي التلاميذ جيدا في بئر الحفي وحاسي الفريد أن الاستشارة الوطنية التي أطلقها الرئيس في 15 سبتمبر 2023 لإصلاح نظام التعليم لا تمثل الحل لمشاكلهم العويصة، كيف ذلك والاستشارة تطرح نظما متقدمة للتدريس وبدائية التنقل وضعف الاتصالات والبنية التحتية ومحدودية الإطار التربوي يسيطرون بشكل مطبق على المنطقتين.