تفتح صنبور المياه.. فلا تجد ماء، مشهد يتكرر منذ أشهر في البيوت التونسيّة، قبل أن تعلن البلاد رسميا حالة الطوارئ المائية، ويصبح قطع المياه ليلا أمرا يخضع لاجراءات الدولة بسبب أزمة شح الموارد والتغيرات المناخية والجفاف الذي يضرب البلاد منذ أكثر من 4 سنوات.
إجراءات الدولة
منذ دخول شهر أفريل الفارط منعت تونس استعمال المياه الصالحة للشرب للأغراض الفلاحية ولري المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وفي غسل السيارات وأقرّت الاعتماد على نظام الحصص في التزود بالمياه.
إجراءات كان يفترض أن تنتهي في الـ 30 من سبتمبر الفارط، إلاّ أنّ الوزارة قررت تمديدها نظرا لعدم تحسّن الوضع رغم أنّ الأمطار التي شهدتها البلاد في شهري ماي وجوان 2023، ساهمت في ارتفاع مخزون المياه بنسبة 6.9 بالمائة وارتفاع نسبة امتلاء السدود في شهر جويلية 2023 إلى 34.9 بالمائة بعد أن بلغت الـ 17 بالمائة فقط في شهر ماي المنقضي، بالإضافة إلى أنّ نظام تقسيط المياه وفر أيضا 100 ألف متر مكعب من الماء يوميا.
إدارة الأزمة
كان الخبراء يدقون ناقوس الخطر منذ سنوات إلاّ أنّ الوزارة لم تتبع أي إصلاحات تذكر، ولم تتبع أي استراتيجية طويلة الأمد لإدارة الأزمة، إلاّ في أفريل الفارط، حتى أنّ تعامل مكتب الاتصال بوزارة الفلاحة والمسؤولين مع الصحافيين لم يكن سلسا.
وتتمثل هذه الاستراتيجية، في ترشيد استهلاك مياه الري من خلال جدولة منظومة الري من السدود ومنع الضخ والحفر العشوائي للآبار بالتنسيق مع وزارة الداخلية والدفاع والعدل، وتنفيذ برامج توعوية بخصوص التصدي لهذه الظاهرة وتركيز خلية أزمة بالدواوين والمندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية لمتابعة الوضع عن كثب، بالإضافة إلى العمل على إعداد شريط تلفزيوني بشأن حوكمة المياه في البلاد وبث ومضات توعوية في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، فضلا عن توزيع مطويات ودعامات للتحسيس والتوعية في المدارس والساحات العامة والفضاءات التجارية الكبرى والطرقات السيارة، وتنزيل الدعائم الإرشادية والبلاغات والمطويات لترشيد استهلاك المياه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية وتركيز معلقات بالشوارع الرئيسية بالولايات الكبرى.
وتولت الوزارة أيضا إرسال إرساليات قصيرة، تحث على الاقتصاد في الماء عن طريق الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ووكالة التكوين والإرشاد الفلاحي.
وقالت الوزارة أيضا، في وثيقة كنا قد تحصلنا على نسخة منها، أنّها عقدت ندوات إعلامية وجلسات حوارية حول إدارة الطلب والعرض وحماية الموارد الطبيعية والتغيرات المناخية وتأثيرها على الموارد المائية والإنتاج الفلاحي، حول المياه في أفق 2050، في حين أنّ الخبراء يشتكون دائما من عدم تشريكهم في إدارة الأزمة، ناهيك عن أنّ الوزارة قامت بطرد إحدى الخبيرات في مجال المياه، من ندوة عقدتها في الغرض، بدعوى أنّها ليست صحفية، والصحفيون بدورهم، تم إعلامهم بأنهم ممنوعون من أخذ تصريحات من المسؤولين إبّان الندوة ما دفعهم للمغادرة قبل انطلاقها.
يأتي ذلك رغم أنّ استراتيجية الوزارة تتضمن تكوين 35 إطارا عال من صنّاع القرار على المستوى الوطني والجهوي في كيفية الاتصال عند الأزمات.
وفي علاقة بوزارة السياحة، اكتفت الوزارة بتنظيم أيام تحسيسية جهوية بشأن ترشيد استهلاك الماء من قبل الجامعات الجهوية للنزل والديوان الوطني للسياحة كما تمت دعوة كل النزل إلى تخصيص مساحة من الزمن خلال الحصص التنشيطية قصد التحسيس بندرة المياه وضرورة ترشيد الاستهلاك.
وقالت الوزارة إنّها ستقوم بوضع ملصقات في وسائل النقل وستنظم سلسلة من الأنشطة الإعلامية والتوعوية لفائدة التلاميذ والمتفقدين البيداغوجيين في المدارس، ناهيك عن تكوين عدد من الطلبة في دورات تدريبية بخصوص التصرف المستدام حول الموارد المائية.
أمّا على مستوى قطاع الفلاحة، فقد أصدرت الوزارة بلاغا تحث فيه المنتجين والمربين على أخذ كل الإجراءات وتوفير كل التجهيزات للتوقي من ارتفاع درجات الحرارة وتدريب المؤطرين في الممارسات الجيدة للاقتصاد في المياه.
إجراءات لم تحل الأزمة
رغم جهود وزارة الفلاحة إلاّ أنّ تواصل انحباس الأمطار والجفاف في البلاد، جعلا الوضع حرجا للغاية، وفقا للمتخصص في التنمية والتصرف في الموارد، حسين الرحيلي.
وفسّر الرحيلي ذلك، بتراجع منسوب السدود، إلى أقل من 26 بالمائة، معتبرا أن تلك الكمية لا تصلح للاستغلال بأكملها نظرا لترسب الأوحال في السدود بحوالي الـ 10 بالمائة وبالتالي فإنّ الهامش الصالح للاستغلال لا يتجاوز تقريبا الـ 16 بالمائة، وهذه الكمية لا تكفي كمياه شرب حتى لـ 3 أشهر، وهذا ما سيؤدي إلى تقليص الكميات المعتمدة للري وبالتالي فإنّ المناطق السقوية التقليدية ستشهد بدورها تراجعا في الإنتاج الفلاحي، سيما وأنّ خضراوات الخريف خاصة منها الورقية، تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه.
وأضاف الرحيلي أن ايردات الأمطار الضعيفة من شأنها أن تضر بالفلاحين وبموسم الزراعات الكبرى لهذه السنة.
واستنكر الرحيلي، عدم شفافية الوزارة، على مستوى نتائج الإجراءات التي اتخذتها، وعدم نشرها للعموم، واعتبر أنّ هناك إشكالا في السياسة الاتصالية، ما قد يؤدي بدوره إلى مشاكل في الانخراط الطوعي للمواطنين في مكافحة الأزمة.
وأكّد المتخصص في التنمية والتصرف في الموارد، أنّه من الضروري تشريك المواطن وإخباره عن نتائج تضحياته، لطمأنته وحثّه على مساندة جهود الدولة في ترشيد استهلاك المياه.
وأوضح الرحيلي أنّ الحلول التي اتخذتها الوزارة هي حلول ترقيعية ووقتية، في حين أنّ إشكالات المياه تتطلب حلولا هيكلية، على المدى المتوسط والبعيد، وتتطلب تضافرا للجهود وحوارا وطنيا شاملا وتشريكا لجميع الأطراف من خبراء ومواطنين وفلاحين وهياكل، لكي تلتزم كل هذه الأطراف بتطبيق ما سيتم التوصل إليه.
واعتبر الرحيلي أنّ هذه الأزمة لا تقتصر على تونس وإنما تشمل كلّ العالم في ظل التحولات المناخية، إلا أنّ بعض البلدان كالجزائر والمغرب، أعدتا استراتيجيات لإدارة الأزمة على المدى المتوسط والبعيد، منذ سنوات.
ورجح الرحيلي، أن تكون الموارد المائية التي ربحتها تونس من نظام تقسيط المياه في الأشهر الأخيرة، قد خسرتها في النزل باعتبار أنّها لا تخضع لنظام اقتطاع المياه.
وانتقد الرحيلي السلطة التي اعتبرها منغلقة على نفسها منذ 2012، موضحا أنّ أولوياتها سياسية وليست تنموية ومائية، وقضايا الماء تعتبر في هذا الإطار قضايا تقنية تحل في الإدارات بقرارات ترقيعية لا يمكنها أن تحل الأزمة التي اعتبر أنّ تفاقمها من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التضخم باعتبار أن غياب المياه سيؤدي إلى تراجع الإنتاج الفلاحي وبالتالي ارتفاع الأسعار، مما سيؤدي إلى ما يسمى بالدوائر التضخمية على المستوى الاقتصادي.
من جهة أخرى فإنّ اجراءات الدولة الردعية، والتي أدت إلى رفع 1110 مخالفة في علاقة بري العقارات الفلاحية و148 مخالفة في ري المساحات الخضراء وغسيل السيارات و145 مخالفة في علاقة بحفر الآبار العشوائية، ليست كافية باعتبار أنّ الحملات التوعوية لم تصل إلى جل المواطنين، فباستجوابنا للبعض منهم، لم يقرّ إلاّ القليل منهم برؤية ومظة توعوية في التلفزيون في حين أنّ جلهم أكدوا لنا أن ما وصلهم من هذه الحملات التوعوية هو ارسالية قصيرة من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، فقط.
ورغم ملاحقة الدولة لكل من يعمد إلى حفر بئر بصفة عشوائية، إلاّ أنّ رئيس المجمع الغابي بالبحيرين، التابعة لمعتمدية برقو من ولاية سليانة، سامي السنداسمي، أكّد أنّ الأهالي كانوا قد تقدموا بشكوى لدى المحكمة الإبتدائية بسليانة والمحكمة الإدارية، بعد أن صدموا بإقدام أحد المتساكنين على القيام بعمليات حفر لاستغلال المائدة المائية في إنشاء مصنع جديد لتعليب المياه، موضحا، أنّه إثر مطلب نفاذ إلى المعلومة، تبيّن أنه يوجد جملة من الإخلالات في الرخصة التي تم اسنادها للمصنع المزمع إنشاؤه ناهيك عن وجود عمليات حفر في قطع أرض لا تشملها الرخصة، وفق تعبيره، إلا أنّ الوزارة لم تتدخل لردع عمليات الحفر رغم أنّ المنطقة لم تعد تحتمل حفر بئر آخر لغاية تعليب المياه.
استراتيجية الدولة لم تتضمن أيضا، جدولا لإصلاح الأعطاب التقنية في شبكة التزود بالمياه وصيانتها، باعتبار أنّها تهرمت لأنّ عمرها الافتراضي هو 20 سنة فقط، وبالتالي فإنّ هذه الأعطاب التقنية أدت سنة 2021 إلى خسائر كبيره في الموارد المائية وصلت إلى 32 بالمائة من مياه الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، بالإضافة إلى أنّها لم تحدّ من الزراعات الموجهة للتصدير والتي تستنزف الموارد المائية المحلية والتي تؤدي بدورها إلى تصدير هذه الموارد المائية الثمنية بصفة مقنعة وبأسعار بخسة إلى الخارج.
منذ سنوات تحتل تونس مراتب متقدمة في تقرير المعهد الدولي للموارد، لأكثر الدول المهددة بالجفاف إذ حلّت في المرتبة الثلاثين سنة 2019، وهي من الدول المصنفة تحت خط الشح المائي، إلاّ أن اجراءات الدولة لا تتماشى مع خطورة الوضع الذي وصلته البلاد منذ 11 عاما، ما يجعل مخاوف فقدان الموارد المائية تتصاعد خاصة في ظل انحباس الأمطار وتصاعد وتيرة الجفاف، وهو ما بدوره أن يعيق التنمية ويزيد من التضخم والتداين، وسط غياب الإنتاج المحلي والموارد التي تعوّل عليها الدولة من أجل النهوض بالبلاد ومن أجل حلّ مشاكلها.