مع استئثار رئيس الجمهورية قيس سعيد بالسلط الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية وتعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد، أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل أواخر ديسمبر 2022 عن مبادرة إنقاذ وطني للخروج من الأزمات في اتجاه خيارات وطنية جديدة، خطوة أعادت إلى الأذهان مبادرة الرباعي الراعي للحوار سنة 2013 والحائزة على جائزة نوبل للسلام حين نجحت في تحقيق توافق بين الأطراف السياسية مجنبة البلاد انزلاقا خطيرا، غير أن زخم التجربة الثانية سرعان ما انخفض وتراجع الحديث عنها خاصة بعد رفض الرئيس القاطع لكل أشكال الحوار.
"مناورات" الاتحاد
في أواخر سنة 2020 وعلى ضوء الانقسامات الحاصلة بين الأحزاب السياسة داخل البرلمان حادت عن تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعي، أيد سعيد مبادرة للاتحاد لإجراء حوار وطني يهدف إلى تصحيح مسار الثورة ويضمن الشغل والحرية والكرامة الوطنية مؤكدا على ضرورة تشريك ممثلين شباب من كل الجهات وفق بيان رئاسة الجمهوري.
في 25 جويلية 2021 فعل سعيد الفصل 80 من دستور سنة 2014 وأقال رئيس الحكومة هشام المشيشي وجمد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وأتت هذه الخطوة تزامنا مع انتشار فيروس كورونا وعجز الحكومة عن السيطرة على الأزمات إلى جانب الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد.
في 26 جويلية 2021 رحب الاتحاد في بيان بالقرارات التي اتخذها سعيد في 25 جويلية وقال إنها تندرج في إطار التوقي من الخطر الداهم والسعي إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة، في المقابل أعرب عن تمسكه بالشرعية الدستورية وضرورة تحديد سقفها الزمني من أجل العودة إلى السير العادي للمؤسسات.
في 24 سبتمبر 2022 دعا الاتحاد عقب صدور الأمر عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية إلى العودة إلى الديمقراطية معتبرا أن تعديل الدستور والقانون الانتخابي شأن يخص جميع مكونات المجتمع المدني من هياكل الدولة إلى المنظمات والأحزاب... معتبرا احتكار الرئيس لذلك خطر على الديمقراطية وشدد على أنه لا حل للخروج من الأزمة الراهنة سوى التشارك والتشاور والحوار الوطني.
أواخر ديسمبر 2022 أطلق الاتحاد مبادرة الحوار الوطني مع عدد من مكونات المجتمع المدني (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عمادة المحامين) للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد.
في جانفي 2023 أكد المتحدث الرسمي باسم الاتحاد سامي الطاهري في حوار مع "العربي الجديد أن المنظمة ترغب في التنسيق مع أجهزة الدولة من أجل المبادرة، لكن إن رفض الرئيس، لن يقف الاتحاد في وضعية المتفرج، واستدرك بالقول هذه المرة لن يكون كما حدث سنة 2020، عندما قدمنا له مبادرة وافق عليها ثم أضاع سنتين، ونحن في 2023 ولم نتقدم أي خطوة، وفق تعبيره.
في فيفري 2023 قال عميد المحامين حاتم مزيو إن عرض المبادرة على رئيس الجمهورية قيس سعيد والرأي العام سيكون في موفى شهر فيفري.
في 7 مارس 2023 أكد أمين عام المنظمة الشغيلة نور الدين الطبوبي، أن الرباعي ماض في مبادرة" الحوار الوطني "وأن مواقف الاتحاد واضحة لإخراج البلاد من المناخات المتوترة. ثم تقلصت تصريحات الرباعي حول المبادرة حد التحاشي.
الزمن السياسي "يغتال" المبادرة
يؤكد المحلل السياسي الجمعي القاسمي في حديثه مع SonFM أن مبادرة الاتحاد لم تعد ذات معنى في ظل قيام مؤسسات الجمهورية الثالثة وإشراف مسار البناء القاعدي على الانتهاء، واعتبر أن الاتحاد "تسرع" في الإعلان عنها خشية خسارة دوره السياسي الذي كان يضطلع به مع حكومات ما قبل الـ 25 من جويلية.
ويرى المحلل السياسي أن رئيس الجمهورية قيس سعيد سحب البساط عن مبادرة الرباعي، وفسر ذلك بأن العناوين الكبرى التي ارتكزت عليها المبادرة في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية كعدم التفويت في المؤسسات العمومية والحفاظ على المقدرة الشرائية للمواطنين وعدم التفويت وإصلاح المؤسسات العمومية تبناها الرئيس في خطاباته.
في الأثناء، أقر عميد المحامين حاتم مزيو في تصريح لموقع "العرب" في أكتوبر الماضي أن زمن المبادرة انتهى وقال أعلنا عن المبادرة في خضم أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة وخلافات حول قانون المالية لكن حاليا أعتقد أن الوقت لم يعد مناسبا، دون ذكر تفاصيل عن مآل المبادرة.
المحلل السياسي أشار أيضا إلى وجود عوامل موضوعية وذاتية ساهمت في تراجع زخم المبادرة على المستوى السياسي والإعلامي، فالموضوعية تتمثل في رفض الرئيس القاطع لكل أشكال الحوار.
في أفريل 2023 أعلن سعيد رفضه الصريح لمبادرة الاتحاد مجهزا على جميع انتظارات منظمات المجتمع المدني والأحزاب، وتساءل عن جدواها في ظل تركيز برلمان منبثق عن خارطة السياسات المعلنة في 13 ديسمبر 2021 معتبرا إياه حوارا وطنيا.
أما العوامل الذاتية فتتمثل في انتهاء الزمن السياسي للمبادرة وتعقيدات المناخ العام إلى جانب عدم مشاركة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية فيها.
وقال المحلل السياسي إن الاتحاد اختار توقيتا سيئا وخاطئا للحديث عن مبادرته لأن المشهد السياسي لم يكن جاهزا إلى جانب عدم مشاركة منظمة الأعراف وأضاف أن المناخ العام لا يتيح لمثل هذه المبادرات أن تجد صدى في الشارع التونسي باعتبار أن الرئيس التونسي المنتخب وصاحب القاعدة الشعبية والمستأثر بالسلط الثلاث من حيث موازين القوى أقوى من الرباعي إلى جانب تواصل المرحلة الاستثنائية.
هذا ويشهد المناخ العام السياسي في البلاد انفصالا بفعل الإيقافات التي شملت قيادات مهمة في الأحزاب البارزة ما ساهم في تراجع أنشطتها ودورها في المشهد العام.
ويرى المحلل السياسي أن ضعف وتراجع زخم الأحزاب السياسية جعلها تحاول الزج بالاتحاد في مواجهة مع السلطة حتى تستفيد منها سياسيا باعتباره القوة المنظمة الوحيدة في البلاد القادرة على التعبئة والتحشيد والتأثير، وأكد أن الاتحاد استوعب هذه الرسالة وقرر النأي بنفسه عن هذه التجاذبات والالتزام بدوره النضالي الاجتماعي (دوره الأساسي). غير أن البيانات تشي بأن المرحلة القادمة ستكون "صدامية" بين الاتحاد والسلطة، فالمنظمة الشغيلة تنتظر إقرار ميزانية سنة 2024 واتضاح مسار الحكومة القادم لتصعد موقفها من الأزمات الاجتماعية كتدهور المقدرة الشرائية وندرة المواد الأساسية وضعف المؤسسات العمومية.