في أعماق "ديار السبيل" تتجلى العديد من الأحاسيس والمشاعر التي تثير القلوب وتلامس الروح، فور دخولك إلى "ديارهم" تراهم بين أحضان أمهاتهم البديلة مشتاقون إلى العطف والحنان..تراوحت أعمارهم بين شهر واحد وسنتين، تخلي والديهم البيولوجيين عنهم عكّر صفو طفولتهم البريئة.. وفي خضم ما يعترضهم من صعوبات مقدّرة حتى قبل ولادتهم، يبرز بريق الأمل والرحمة ليلقي بظلاله الدافئة على حياة هؤلاء الأطفال ويتجسد هذا البريق في جمعية ديار السبيل، ملاذٌ حنون وآمن يحتضن أطفالًا صغاراً فاقدين للسند، حيث يُقدَّم لهم الحب والاهتمام والرعاية بلا حُدود.
جمعية "ديار السبيل" هي جمعية خيرية تونسية مقرها في باردو تأسست بتاريخ 07 سبتمبر 2007، تهدف إلى معاضدة مجهود الدولة للوقاية من الإنجاب خارج إطار الزواج ومن حالات العود، الإحاطة بالأم المنجبة ومساعدتها على احتضان ابنها وإدماج الأم العزباء ورضيعها في الوسط العائلي والإجتماعي..
تعنى الجمعية الخيرية بالأطفال فاقدي السند العائلي والأمهات الحاضنات لأطفالهن وبعض العائلات المعوزة..
تقول سميرة الجباري المديرة التنفيذية للجمعية خلال حوار أجرته معها إذاعة Son fm أن الجمعية تعنى بالأطفال من عمر اليوم الواحد إلى العامين وتحتضن ديار السبيل الأطفال القادمين من المستشفيات والمصحات الخاصة عن طريق مندوبية حماية الطفولة ومرشدة المستشفى حيث تقوم المندوبية بإرسال تدبير اتفاقي أوعاجل للجمعية لإقامة الطفل صلبها، وبعد عمر ال 3 أشهر تقوم بمتابعة ملفه مع قاضي الأسرة والأم البيولوجية والتي تتخلى في العديد من الأحيان تماما عن طفلها منذ الولادة وتقوم بتغيير كل المعلومات المتوفرة عنها، وفي هذه الحالة يعيّن مندوب حماية الطفولة جلسة لقاضي الأسرة حيث يتم متابعة كل مراحل الجلسة والتي تتوج إما باسترجاع الطفل أو التخلي عنه لفائدة الدولة.
وفي المرحلة الموالية تقوم الجمعية بإرسال ملف الطفل إلى معهد الطفولة، حيث توجد ملفات العائلات التي تسعى للتبني أو الكفالة وملفات الأطفال الموجودين في ديار السبيل وتقوم لجنة خاصة بالمعهد، بعد عملية درس كل الملفات المتعلقة بالطرفين، باختيار العائلة المناسبة للطفل المناسب.
وقالت محدثتنا أن كلّ الأطفال الذين تم التخلي عنهم من طرف عائلاتهم يتم تبنيهم أو كفالتهم جميعا دون استثناء، حتى أن عدد العائلات التي تسعى للتبني والكفالة أكثر من عدد الأطفال.
وشكليا ليس هناك أي فرق بين الكفالة والتبني لأن كليهما يهدف الى رعاية فاقد السند ماديا ومعنويا غير أنه من الناحية القانونية توجد فروقات، إذ يتمثل التبني في تغيير كل ما يتعلق بالطفل من اسم ولقب أما الكفالة فتتمثل في الحفاظ على نفس الهوية حتى المتعلقة منها بالوالدين.
وعند الولادة والتخلي تقوم الجهة المخوّلة وهي معهد الطفولة أو المرشدة بإرسال مضمون الطفل إلى الجمعية الذي لا يتضمن في عديد الحالات لقب الأب أو بلقب الأم فقط وتقوم مصلحة حماية الطفولة التابعة لوزارة المرأة والطفولة وكبار السنّ بمنحه لقبا افتراضيا في حالات الاغتصاب وتمنح الأم البيولوجية الاسم منذ الولادة.
وفي بعض الحالات تقرر الأم البيولوجية زيارة طفلها خلال أوقات تحددها الجمعية، وفي حال اتخاذها قرار الاسترجاع يشرف قاضي الأسرة عن كامل مراحل العملية لتأمين وحماية الطفل نظرا لوجود حالات تقوم فيها الأم ببيع طفلها الى عائلة تتبناه بطريقة سرية وغير قانونية.
وفيما يتعلق بمداخيل الجمعية تتمتع "ديار السبيل" بمنحة وزارة الشؤون الاجتماعية سنويا والمتمثلة في 20 بالمئة من المصاريف فقط وتتكفل الجمعية الخيرية ببقية المصاريف المتأتية بالأساس من المواطنين والمجتمع المدني بفضل الجهود الإنسانية الخيّرة والتضامن المستمر.
بقدر إحاطتها بالطفل، تحيط جمعية "ديار السبيل" كذلك بالأم العزباء نفسيا واجتماعيا، وتدعمها ماديا من خلال توفير دورات تكوينية لها في العديد من المجالات والتي تخول لها بعث مشروع يمكنها من توفير الحاجيات المادية لطفلها في حال استرجاعه.
وتختلف حالات التخلي عن الأطفال من حالة إلى أخرى وتنقسم إلى حالات إنجاب خارج إطار الزواج، أو في حالات الزواج حيث يكون الطفل في حالة تهديد، يحددها مندوب حماية الطفولة، وتقوم الدولة بافتكاكه في هذه الحالات.
وفي جمعية "ديار السبيل" يوجد 12 أم حاضنة تسهر على رعاية مبنية على الحنان والأمان حيث يُقدَّم لهم العطف والاهتمام اللازم، كما توفر الجمعية رعاية صحية متخصصة للأطفال متمثلة في طبيب وأخصائي علاج طبيعي وأخصائي نفسي لتمنحهم الفرصة لنموٍ صحي ونفسي واعد.
عند دخولنا الى أماكن إقامة الأطفال، انعكس وجود الأمهات الحاضنات الدافئ الذي ملأ البيئة بالإيجابية والحب، الذي مسح دموع الفراق والحنين بأصوات همساتهن العاطفية والكلمات المطمئنة، وتجلى لينهن في لمسات أيديهن العطوفة التي تضمن الشعور بالأمان والاهتمام.
تتبادل الأمهات الحاضنات نظرات مؤثرة مع أطفالهن، تعبيرًا عن حبهن اللامحدود واهتمامهن الصادق، وفي تلك اللحظات النقية، تتشكل ذكريات جميلة تبقى في أذهان الأطفال طوال حياتهم.
في هذا المشهد الحساس، تملأ المشاعر الجياشة بالمحبة الجو، وتظهر القوة الروحية والعاطفية للأمهات الحاضنات، التي تعزز بذلك روابط الحب بينهن وبين أطفالهن.
ومن من وجهة نظر علم الاجتماع قال الأخصائي في علم الاجتماع حبيب الرياحي في تصريح لإذاعة Son FM أن تونس من بين البلدان الإسلامية، مع إندونيسيا وتركيا، التي تبنت مشروع فكرة التبني بعد مشروع التحديث الذي ظهر في تونس منذ سنة 1956 مع الحبيب بورقيبة، لكن رغم قِدم هذا القرار لا يزال المجتمع التونسي غير متسامح مع فكرة التبني حتى أن العديد من الأصوات طالبت بعد الثورة بإلغاء هذا القانون.
ولازال الشخص المتبني في تونس يعيش على وقع وصم اجتماعي ونظرة دونية، حيث يمضي حياته في رحلة بحث متواصلة عن الأبوين البيولوجيين التي يعتبرها الاعتراف الأهم من وجوده في عائلته البديلة التي منحته الكنية.
ويعتبر محدثنا أنه يمكن أن تنفجر لدى الشخص المتبني في سن متقدم أزمة الهوية التي يكتشفها بالصدفة أو يتم إعلامه بها والتي من الممكن أن تسبب له شكوكا حول هويته وأصوله مما يسبب له اضطرابا عاطفيا يشعر من خلاله بالحاجة المتواصلة إلى تبرير هويته ووجوده في المجتمع.
وشدد الأخصائي الاجتماعي على ضرورة نشر الوعي حول التبني والتفهم والتسامح مع الآخر المختلف، مؤكدا على ضرورة تعزيز الوعي والتسامح لدينا وعدم الحكم على هوية الأشخاص المتبنيين أو قيمتهم بناءً على حالتهم الاجتماعية.