×
×

الـ17 من أفريل 2023: شباب نفخوا في لحظة يأسٍ فأطفئُوا الشمعة الأخيرة


SON FM
قسم الأخبار
قسم الأخبار
نشر في 2023/05/13 19:36
TT
11

 

البحر .. يوم لك وألف عليك، فإما نجاة محققة، وإما أن تخترمك أمواجه ، فتصبح ثالث الأسماك والرمال.

أضحى ركوب "قوارب الموت" الورقة الأخيرة التي يلعبها الشبّان والشابّات، من أجل الخلاص الجماعي من الفقر والخصاصة، فالفرد منهم لا يعيش إلا في انتظار توضيب "حرقته" الخاصة، أي كانت شاكلتها.

وبين "سماسرة" أرواحٍ أعدمتْ فيهم روح الإنسانية، ليرتكبوا جرائما تحصى ولا تعد، وتهافت الناس على أن تطأ أقدامهم بلدا غير هذا البلد الذي تواطأت دولته وأجهزتها مع هذه الظاهرة، لتُترجم حلقة مفرغة ما بين بلدان الهروب والقارة العجوز.

عائلات ضحايا ال"الحرقة" بات الأمل عدوهم الأول لا اليأس، فتَرجهُمْ أسئلة وتحيرهم أجوبة.

"عيش ولدي احسبني في بلاصة بوك وحس بيا" ما دخلوا حتى جثة اليوم؟" بصوت مرتعش توسل أبو أحمد (مفقود في حادثة انقلاب مركب ) حارس مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس، عله يظفر بخبر عن مصير جثة ابنه، الذي أقام عليه جنازة الغائب.

في الـ27 من أفريل 2023 غرق مركب يقل 19 مهاجرا تونسيا غير نظامي، تتراوح أعمارهم بين 16 سنة و 23 سنة على سواحل القراطن بجزيرة قرقنة، تمكن 4 منهم من النجاة ،من بينهم " الحراق" ولفظ البحر 6 جثث ولا تزال عشرة عائلات تنتظر نبأ عن أولادها.

ضمن قائمة المهاجرين الـ19، قصص تثير الدهشة والريبة، تقول والدة شيماء الماجري (23 سنة إحدى ضحايا المركب) " كانت ابنتي ستتحصل على الإجازة الأساسية نهاية هذا العام، كانت تردد دائما أنها ستنهي دراستها، وتهاجر إلى العمل في فرنسا، فهناك ستجني مالا كثيرا وتعيش في رفاهية..

إلى اليوم و أم شيماء شاخصة تتساءل، لماذا أقدمت فلذة كبدها على “الحرقة” وما سر هذا الرحيل السريع المباغت.

عائلات تتمخض حيرة ولا تجني غير تعب السؤال، أبو أحمد (أحد الهالكين)  يرجح أن لا علاقة للدولة بغرق ابنه، إذ يتقاضى ولده أجرا قيمته 1200 دينار شهريا، ويعيش صحبة عائلاته "ماكل، شارب، لابس" وفق رواية والده.

الوضع يختلف عند شقيق محمد العويساوي (23 سنة)، الذي أجبرت البطالة عائلته على تداين 5 آلاف دينار، على أمل أن يصبح معيلا لعائلته، يقول محمد: حلمنا يتمثل في أن يصل إلى أوروبا، ليغير مجرى حياتنا ... ويل الظروف الاجتماعية القاسية،جعل أخي يفكر باستمرار في مغادرة هذا البلد دون اعتبار مخاطر "الحرقة"، بل إنه كان يردد على الدوام" أنا ميت هوني ولا غادي".

عائلات جمعتهم مصائب أبنائهم بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس، فمنذ 23 يوما يجلس محمد العويساوي، رفقة أبو أحمد، وعمٌ مفقودٍ آخر، تحميهم نخلة من حر شمس شهر ماي، ينتظرون بصمود عظيم وصبر منقطع النظير أي كلمة قد تشفي غليلهم.

مقبرة مع تأجيل التنفيذ:

تنبعث من قسم الطب الشرعي بمستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس رائحة النهايات والموت البشع، يشتمها القاصي والداني على بعد أمتار، رائحة كريهة تعكس وجود عدد كبير من الجثث المتعفنة و المتحللة، والتي فاقت طاقة استيعاب القسم.

في الـ 27 من أفريل المنقضي تلقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع صفاقس الشمالية، إنذارا بتكدس جثث مهاجرين غير نظاميين في قسم الطب الشرعي، ينذر بكارثة صحية وبيئية، ما دفعهم إلى التنقل على عين المكان، أين قابلوا مدير المستشفى، الذي أكد أن عدد الجثث الموجودة في قسم الطب الشرعي تجاوزت 230 جثة، في حين أن طاقة استيعابه لا تتجاوز 35 جثة.

وانتقدت الرابطة على لسان كاتبها العام علي الهمامي تراخي السلطات الجهوية بولاية صفاقس في دفن الجثث رغم صدور تقارير الطب الشرعي.

مراحل دفن الجثث:

وفق التمشي القانوني يتم دفن جثث المهاجرين غير النظاميين، بعد بيان التطابق من عدمه بين تحاليلهم والجينات المقدمة من عائلات التونسيين المفقودين، وبعد إصدار النيابة العمومية إذنا يقضي بذلك، وبمعدل يومي متذبذب ينحصر بين 05 و50 جثة يقع توزيعهم على المقابر البلدية في الولاية.

وحسب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع صفاقس الشمالية، منذ 18 من أفريل المنقضي ارتفعت أعداد الجثث التي لفظها البحر في المنطقة بشكل مهول، حيث أصبح المعدل اليومي يتراوح ما بين 50 و 60 جثة.

في المقابل يُرجع المدير الجهوي للصحة بصفاقس حاتم الشريف أسباب تكدس جثث "الحراقة" في المستشفى إلى عدم توفر أماكن للدفن، إلى جانب صدور تحاليل الطب الشرعي بعد 72 ساعة من تاريخ وصول الجثث، ويضيف الشريف "عقب عطلة عيد الفطر تراكمت  أعداد الجثث المتعفنة، نظرا لأن الطاقم الطبي كان في عطلة، لكن سرعان ما تم تدارك الأمر”، نافيا نفيا قطعيا دفن أي جثة مهاجر دون إجراء تحاليل الطب الشرعي.

المماطلة سيدة الموقف:

انتقد بحارة قابلناهم بميناء سيدي يوسف بجزيرة قرقنة، تراخي السلطات في انتشال الجثث العالقة في شبكات الصيد وعلى سواحل العطايا والقراطن،  وأفاد أحد البحارة:" اتصلت بالحرس البحري لإبلاغه بوجود 8 جثث، فحذرني من أن لا اتصل مجددا للإبلاغ"

ووفق صور تحصلنا عليها باتت جثث الأطفال والرضع تعلق في محركات القوارب ووسط "مغزل" الصيد.

وحسب الأرقام المتاحة فقد حاول أكثر من 17 ألف مهاجر عبور البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا، خلال الأربعة أشهر الأولى من هذا العام.

-تفاصيل غرق مركب 17 أفريل:

في 14 من أفريل 2023 تلقت عناصر “الحرقة” الموزعين على : القصرين، القيروان، وصفاقس/ مكالمة هاتفية من "الحراق" يدعوهم فيها إلى القدوم فورا إلى ولاية صفاقس، أين أسكنهم بيتا قديما في ريف المدينة، وبعد تنسيق استمر ليومين مع وسطائه، جاءت اللحظة التي تعقبها الجميع، ليلة لقافتهم الأمواج خافضة رافعة... في 17 من أفريل  2023 وبواسطة مركب حديدي متهالك، يصل طوله متران،  ويتسع إلى 6 أشخاص فقط.

بعد دقائق من الإبحار، بدأت المياه في التدفق إلى المركب،  يؤكد أحد الناجين أن "الحراق" كان على يقين، بأن المركب سينقلب، فقبل أن يبدأ الماء بالتسرب، ألقى بنفسه في عرض البحر، وبدأ في السباحة نحو الشاطئ، وكان الغارقون يتوسلون "بجاه ربي يرحم والديك" عله يعود أدراجه وينقذهم وفق رواية ناج...

عبور شبه مستحيل إلى قرقنة:

منذ أوت 2021 بدأت تثير عمليات "الفرز الأمني" في ميناء جزيرة قرقنة استياء المسافرين، بعد منع حوالي 100 مسافر من صعود "اللود"، بحجة أنهم ليسوا من أبناء الجزيرة، في تقويض سافر لحقهم في التنقل،دون أي سند قانوني أو قرار رسمي.لكن الثابت أن هذا الإجراء يندرج ضمن مساعي الدولة للحد من الهجرة غير النظامية، خاصة بعد أن أثبت الرحلات المنطلقة من الجزيرة نجاعتها في الوصول إلى إيطاليا.

يقع التثبت من هويات جميع راكبي العبارة عند دخولهم إلى الجزيرة ،وتشترط وحدات التفتيش سندا قانونيا للعمل أو وثيقة تثبت قرابتهم بأحد متساكني الجزيرة.

غير أن هذا الإجراء أثر بشكل سلبي على القطاع السياحي والتجاري في المنطقة، ينتقدُ أحد البحارة الذين قابلناهم في ميناء قرقنة هذا الإجراء، قائلا: "جميعنا تونسيون ..لا أدري لماذا فرضت السلطات هذا الإجراء على جزيرة قرقنة بالذات، في حين أن كل سواحل تونس، مخرج لرحلات "الحرقة".

في المقابل ورغم عمليات الانتقاء والتشدد البوليسي في التعامل مع الراغبين في العبور إلى جزيرة قرقنة، إلا أن المركب الـذي يقل 19 مهاجرا تونسيا، انطلق من جزيرة قرقنة بتواطؤ من عون شرطة كان ثمنه "مليون" وفق رواية أخ لضحية من ضحايا المركب.

بورصة الحرقة:

وفق "حراق" تمكنا من الوصول إليه، تتراوح أسعار "الحرقة" في تونس بين 6 آلاف دينار و25 ألف دينار ،على اختلاف أنواع  "القوارب" وضمانات الوصول.

يؤكد "الحراق"، أن عمليات الحرقة باتت متطورة، حيث يعتمدون على قوارب سياحية مرخص لها تحت ملكية عائلات ثرية، و مندرجة ضمن السجل البحري.

غياب اليقين:

 تمرد وغضب على فرض الحدود ،يقول الأستاذ في علم الاجتماع ووزير السابق مهدي المبروك صاحب كتاب voile et sel في حديثنا معه حول موضوع الحرقة أن هذا المفهوم ظهر بداية التسعينات 1991- 1992 لمّا فرضت إيطاليا التأشيرة على مواطني العالم العربي بمقتضى انتمائها إلى فضاء شنغن، ويرجع دكتور علم الاجتماع ، هاجس الهجرة غير النظامية لدى الشباب في تونس، رغم قسوة وعناء الوصول، إلى الهشاشة النفسية وعدم الرضاء على الوضعية الاقتصادية والشعور الدائم بانعدام الاطمئنان والأمن الاجتماعي، إضافة إلى ضبابية المستقبل.

ويضيف المبروك، "أصبح الناس ينظرون إلى أوروبا على أنها جنة ونِعْمَ المصير، حيث لم تعد إرادة "الحرقة" مقتصرة على الشباب العاطل، وإنما انتشرت لتصل إلى أجزاء أخرى من المجتمع، كالنخبة وغيرهم، الذين باتوا يشعرون بأن لا جدوى من المكوث في تونس، فلم تعد الغاية من الهجرة تحقيق الثروة، بل الانصهار داخل مجتمع أوروبي آمن، يمزج بين الحريات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

أسباب متشعبة للحرقة بين ما هو اجتماعي ونفسي وثقافي، إلا أن السبب الرئيسي هو ذاك المتعلق بسبل الحياة أي الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي ما تنفكّ تعمق الفوارق الطبقية والجهوية في بلد جعل من الفقر رجلا وأحياه مااضطر الشباب للمخاطرة بأنفسهم لقتله. 

 

تنويه: إلى حدود كتابة هذه الأسطر مازال محمد العويساوي، وأبو أحمد وعم أحد الغرقى، مجتمعون يترقبون جثث أبنائهم على عتبة مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس في مشهد جنائزي مؤلم...

 

 


مقالات ذات صلة

من نحن ؟

"SON FM" هي إذاعة قرب تونسية جمعياتية جامعة وإيجابية

تابعونا

2024 © كل الحقوق محفوظة. تصميم و تطوير الموقع من قبل CreaWorld