مازالت فكرة فعالية استقلالية البنك المركزي من عدمها تطرح جدلا واسعا على المستوى العالمي وفي عديد الدول على غرار تونس التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض لفكرة إلغاء قانون استقلالية البنك المركزي بما لها من تداعيات على التضخم والتوازنات المالية، وفق الخبراء.
ويقصد بمصطلح استقلالية البنك المركزي هو ما يتمتع به من حرية مطلقة على مستوى إدارة سياسته النقدية دون املاءات سياسية من قبل الحكومة، لكن دون استقلال تام عنها وهو ما يفرض وجود تنسيق بين التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة من جهة، والسياسة النقدية للبنك المركزي من جهة ثانية.
تاريخيا، تعود فكرة استقلالية البنك المركزي إلى القرن التاسع عشر عندما بيّن الاقتصادي دافيد ريكاردو خلال سنة 1824 أنه لا يمكن الاعتماد على السلطة السياسية في السيطرة على اصدار النقود الورقية.
وفي سنة 1929، دفعت الأزمة المالية العالمية والركود الاقتصادي لسنة 1929 الحكومات إلى الاقتراض من بنوكها المركزية لتمويل الحرب، وهو ما أدى إلى لجوء بعض الحكومات الى تفويض ملكية البنوك المركزية إلى الدولة مثل بنك كوبنهاجن 1936 وبنك كندا.
في تونس، صادق مجلس نواب الشعب بتاريخ 12 أفريل 2016 على مشروع قانون متعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي بموافقة 73 نائبا واحتفاظ 25 نائبا بأصواتهم ومعارضة 5 آخرين وذلك بحضور 105 نائب.
واتسمت تلك الفترة وفق الخبراء بضغط الحكومة للإسراع في تمرير القانون بغرض الحصول على تمويل جديد من صندوق النقد الدولي بقيمة 2.8 مليار دولار.
وبعد أيام قليلة من المصادقة، أصدر صندوق النقد الدولي بتاريخ 15 أفريل 2016 بيانا أعلن فيه عن إبرام اتفاق مع تونس مدته 4 سنوات بقيمة 2.8 مليار دينار في إطار "تسهيل الصندوق الممدد".
هذا البيان، أكد دعم الصندوق لبرنامج الإصلاحات الاقتصادية للحكومة والذي كان فحواه الموافقة على مشروع القانون الذي يهدف إلى تعزيز استقلالية البنك المركزي واستقرار القطاع المصرفي واستكمال إعادة هيكلة البنوك العمومية الثلاثة لضمان عملها على أساس قابل للاستمرار.
ومنذ ذلك التاريخ، وإلى حدود الساعة، لم يكن هذا القرار محل توافق حيث لا طالما واجه العديد من الرؤى ووجهات النظر المتباينة.
في الآونة الأخيرة، أعاد لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد بمحافظ البنك المركزي مروان العباسي والذي تناول موضوع مراجعة الفصل 25 من قانون النظام الأساسي للبنك المركزي، الحديث حول مدى نجاعة مراجعة هذا القانون.
وفي هذا الإطار أكد الخبير الاقتصادي معز حديدان في تصريح لإذاعة Son FM أن القطاع البنكي أصبح يشكو من شح في السيولة حيث أن قدرته على تمويل الدولة أصبحت محدودة وهو ما أدى إلى توجه الدولة التونسية إلى البنك المركزي حتى تتحصل على تمويلات من السوق الداخلية بالدينار التونسي، مشيرا إلى أن من بين إيجابيات التوجه المباشر إلى البنك المركزي هو تخفيض الضغط على البنوك حتى تتمكن من تمويل بقية القطاعات على غرار القطاع الخاص والاستثمار.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن عملية تمويل البنك المركزي للدولة مباشرة يمكن أن تنجرّ عنه العديد من التداعيات السلبية، مشيرا إلى أنه في حال تمويل البنك المركزي للدولة بصفة مباشرة ودون وضع حدود مؤطرة لهذه العملية يمكن أن يؤثر ذلك على التضخم وعلى قيمة الدينار التونسي.
وبيّن حديدان أن الحل الأنسب في هذه الوضعية هو وضع سقف محدد لا يتجاوز 2 بالمئة من الناتج الداخلي الخام و5 بالمئة من الموارد الذاتية لميزانية الدولة، مضيفا أن الهدف الرئيسي للبنك المركزي هو الملائمة بين حجم الاقتصاد الحقيقي مع الكتلة النقدية.
وأفاد الخبير الاقتصادي بأنه في حال تداين الدولة التونسية من البنك المركزي فذلك سيؤدي إلى ضخه أموالا كبيرة للاقتصاد، وإذا تجاوزت الكتلة النقدية حجم الاقتصاد الحقيقي سيتسبب ذلك في تضخم نقدي، وسيرتفع الطلب على العملة الأجنبية نظرا لكثرة الأموال المتداولة بالدينار وارتفاع العرض على الدينار التونسي وهو ما يمكنه أن يتسبب في نزول قيمة العملة المحلية.
من جهة أخرى قالت الخبيرة الاقتصادية جنات بن عبد الله في تصريح لإذاعة Son FM أن قانون استقلالية البنك المركزي جاء على خلفية إبعاد السلطة التنفيذية عن توظيف السياسة النقدية لفائدة الحملات الانتخابية والأحزاب الحاكمة لتمويل ميزانية الدولة باعتبار أن التمويل النقدي المكثف لميزانية الدولة عبر البنك المركزي يؤدي إلى ارتفاع التضخم.
واعتبرت بن عبد الله أن الفصل 25 من القانون الأساسي للبنك المركزي الذي يقضي بتمويل الدولة غير المباشر عن طريق البنوك المحلية أدى إلى شح السيولة لدى البنوك باعتبار الحاجات المتكررة لميزانية الدولة للتمويل والاقتراض بالعملة المحلية والصعبة وهذا الاقتراض يتم بكلفة السوق وبكلف فائدة السوق والتي تفوق نسبة 8 بالمئة، مشيرة إلى أنه في فترة ما قبل سنة 2016 كانت الدولة تقترض من البنك المركزي بفوائد ضعيفة جدّا وفي بعض الحالات بصفر فائدة، وبالتالي أصبح للدولة أعباء مالية إضافية قدرت في حدود 3 مليار دينار في السنة.
واعتبرت الخبيرة الاقتصادية أن تمويل البنوك المحلية للبنوك كان على حساب الاقتصاد الوطني وعوضا أن تتولى البنوك تمويل الاقتصاد والاستثمار أصبحت تكتفي بتمويل ميزانية الدولة.
ووفق نفس المصدر فإنه بقرار استقلالية البنك المركزي حُرم الاقتصاد الوطني من التمويل البنكي، وأكدت بن عبد الله على ضرورة ان يكون التمويل النقدي للبنك المركزي للدولة مضبوطا بمعايير دقيقة ومضبوطة ويجب عدم الخروج عنها لأنه بتجاوزها يكون مفعول هذا التمويل تضخمي وعلى السلط النقدية أن تسهر على ضرورة الاّ يؤدي هذا التمويل إلى التضخم وتكون مصلحة البلاد هي غاية كل من السلطة التنفيذية والنقدية.