منذ انتخابات 2024، لم تعد الساحة السياسية التونسية قادرة على إخفاء التحولات العميقة التي تشهدها البلاد. فهذه الانتخابات لم تُقرأ فقط كاستحقاق انتخابي تقني، بل باعتبارها مرآة للعلاقات المأزومة بين السلطة والمعارضة و الإعلام والمجتمع المدني وحتى بين المواطن والدولة.
يؤكد الباحثون المعدون للدراسة صار منظمة "بوصلة" أن ما جرى لا يمكن أن يُدرج في خانة الممارسة الديمقراطية، بل أقرب ما يكون إلى تكريس نظام سلطوي قائم على غياب التنافسية وتهميش الحريات الأساسية. وقد عبّر عمر كردوس عن ذلك بوضوح على موجات إذاعة Son FM قائلاً: "من منطلق علمي، كل ما يبرهن أننا في نظام استبدادي نحن فيه."
انهيار المؤسسات وتكريس السلطة
تشير التحاليل إلى أن الرئيس قيس سعيّد عمد إلى سلسلة من الإجراءات التي أفضت إلى تآكل المؤسسات الديمقراطية. فقد غيّر القوانين الانتخابية والدستورية بما يضمن له السيطرة المطلقة، في ما وصفه كثيرون بـ "انقلاب داخلي" استهدف البنى السياسية والمدنية. والنتيجة كانت مركزية سلطة واضحة تقضي تدريجياً على كل إمكانية لوجود منافسة سياسية حقيقية.
هذه الدينامية رافقها تراجع خطير في حرية التعبير والتنقل واستقلالية القضاء، مع تزايد الضغوط على الإعلام، وارتفاع وتيرة الملاحقات والسجون في صفوف المعارضة السياسية.
أزمة ثقة وشعبوية متصاعدة
الأزمة لا تقتصر على السلطة فقط، بل تشمل أيضاً المعارضة والأحزاب السياسية. فقد فشلت هذه الأخيرة في تمثيل مصالح الشعب بفاعلية، واكتفت بخطاب شعبوي لا يلامس القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحارقة. هذا الفشل أضعف ثقة المواطنين بالعمل الحزبي، وجعل سؤال الشرعية لا يقتصر على الرئيس، بل يطال المشهد السياسي برمته.
من جهة أخرى، يطرح المراقبون تساؤلات حول طبيعة الدعم الشعبي لقيس سعيّد. فبالرغم من ظهوره بمظهر الرئيس المدعوم شعبياً، تكشف الأرقام عن ضعف مشاركة الشباب في الانتخابات، ما يجعل هذا الدعم محل شك: هل هو تعبير حقيقي عن إرادة الشعب، أم مجرد انعكاس لتوظيف سياسي وإعلامي؟
جدل الشرعية الدستورية
أحد أبرز النقاشات التي يثيرها الوضع الحالي يتمثل في شرعية رئاسة سعيّد. فهل نحن أمام فترة رئاسية ثانية وفق منطق التداول، أم أمام استمرارية للولاية الأولى؟ الجدل القانوني والدستوري لا يزال مفتوحاً، خاصة في ظل تعديلات دستورية وانتخابية تثير الكثير من الجدل. بعض المقارنات ذهبت إلى تشبيه الحالة التونسية بما جرى في رواندا مع بول كاغامي، الذي أعاد هندسة النظام السياسي ليطيل في فترة حكمه.
مستقبل غامض
ما يثير القلق، هو حالة عدم اليقين التي تلف المشهد. فالوضع القانوني غامض، والمؤسسات الديمقراطية منهكة، والمجتمع المدني تحت ضغط مستمر. في المقابل، يواصل الرئيس استخدام المنطق القانوني لتبرير قراراته، في وقت يؤكد فيه الخبراء أن تونس تحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد تبريرات قانونية، تحتاج إلى ديمقراطية فعلية، ومؤسسات فاعلة، ومسار سياسي يعيد للشعب ثقته في العملية السياسية.