تعيش تونس أزمة فلاحيّة خانقة، وهي بلد يعتمد اقتصاده أساسا على القطاع الفلاحي، نظرا للتغيرات المناخية ولشح المياه وارتفاع درجات الحرارة، وغياب استراتجيات دقيقة وواضحة تنهض بالقطاع الزراعي الذي مازال يعتمد أساسا، على الفلاحة البعلية والزراعات التي تستنزف الثروات المائية والتي توجّه أساسا للتصدير، ناهيك عن تراجع الإنتاج وصعوبة توفير كلّ احتياجات البلاد من الحبوب إبّان الحرب الروسية الأوكرانية.
كل هذه العوامل جعلت "مطمور روما" الذي كان يؤمّن غذاء امبراطرية رومانية بطم طميمها، يستورد أكثر من 90 بالمائة من حاجياته من الحبوب، بعد أن سجلت كمية الحبوب المجمعة هذه السنة انخفاضا بنسبة 60 بالمائة مقارنة بالموسم الفارط إذ لم تتجاوز كميات الحبوب المجمعة 2.7 مليون قنطار خلال موسم 2023 وفقا لمديرة التنمية والجودة بديوان الحبوب سلوى بن حديد الزواري.
وضع عمّقته نسبة الإجاحة في الزراعات الكبرى لسنة 2023، التي بلغت في كل من باجة الجنوبية وجندوبة والكاف وزغوان وسليانة والقصرين والقيروان ونابل، الـ 100% جراء الجفاف، وفقا لمساعد رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري المكلف بالتعاون الدولي والتصدير والمشاريع وعضو اللجنة الوطنية للتعويض عن الجوائح، عبد الخالق العجلاني، في تصريح لإذاعة Son Fm.
الاقتراض من أجل الغذاء
وسط هذا الوضع، لجأت تونس لجملة من الإجراءات من بينها التوقيع مؤخرا، يوم الأربعاء 19 جويلية 2023، على قرض، بقيمة تناهز الـ 87 مليون دولار، أي ما يعادل الـ 267 مليون دينار تونسي، من البنك الإفريقي لتأمين التزود بالحبوب والشعير العلفي، وسط إشكال عويص يتحسسه المواطنون كلّ اليوم، في مشقّة الحصول على الخبز المدعّم، المصنوع من القمح المطحون، الذي تؤمنه المطاحن للمخابز، والذي تحصل عليه بدورها من ديوان الحبوب الذي يؤمن حاجيات البلاد من القمح سواء عبر التوريد أو عبر تجميع المحاصيل المحلية علما وأنّ حاجيات تونس من القمح اللين ومن القمح الصلب تتجاوز المليون قنطار في كل صنف شهريا وفقا لمديرة التنمية والجودة بديوان الحبوب سلوى بن حديد الزواري، في تصريح لها لـ Son Fm.
وهذا ما يفسّر تجاوز نسبة واردات الحبوب، الـ 50 بالمائة من جملة الواردات الغذائية المسجلة إلى غاية شهر أفريل من هذه السنة وفقا للمرصد الوطني للفلاحة، رغم المساعدات التي تلقتها تونس من أمريكا، لمواجهة نقص إمدادات الحبوب الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية، والتي بلغت حوالي 25 ألف طن من القمح الأمريكي الصلب وفقا لبيان نشرته السفارة الأمريكية، وهو ما يفسّر أيضا، المرتبة الـ 55 عالميا التي احتلتها تونس في مؤشر الأمن الغذائي العالمي لسنة 2021، من جملة 113 دولة.
إجراءات وزارية.. طال انتظار الإعلان عنها
أخيرا.. وبعد طول انتظار، كشفت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، يوم الجمعة 21 جويلية 2023، عن الإجراءات الاستثنائية المعتمدة خلال الموسم الفلاحي الحالي 2023/2024.
وتتلخص هذه الإجراءات، وفقا لمديرة التنمية والجودة بديوان الحبوب، سلوى بن حديد الزواري، في توفير 700 ألف قنطار من بذور الحبوب، بالإضافة إلى تكوين مخزون احتياطي في حدود 500 ألف قنطار من القمح الصلب المراقب لتأمين حاجيات الموسم الفلاحي القادم من البذور (2024/2025).
وعمدت الوزارة أيضا إلى الترفيع في أسعار الحبوب عند الإنتاج وفقا للأمر الحكومي عدد 529 لسنة 2023، والمتعلق بتعيين سعر الحبوب وبكيفية دفع أثمانها وإحالتها، ناهيك عن زيادة منحة تشجيعية ظرفية للموسم الحالي بـ 10 دنانير لكل الأنواع المنتجة بالإضافة إلى الترفيع في المنح والهوامش المخولة للمجمعين بانعكاس مالي جملي في حدود 4,2 مليون دينار.
وأكدت مديرة التنمية والجودة بديوان الحبوب أنّه تم إيقاف العمل بعناصر الجودة المعتمدة في السلم الحالي عند الشراء بصفة استثنائية لهذا الموسم مع الإبقاء على عنصر الرطوبة نظرا لأهميته في المحافظة على المخزونات، بالإضافة إلى عنصر الشوائب المختلفة التي لا قيمة لها والتي يمكن للفلاح التحكم فيها.
وأضافت الزواري، أنّه سيتم تعويض الأضرار للفلاحين المنخرطين قبل انطلاق موسم البذر وذلك وفقا للأمر عدد 527 المتعلق بتحديد مناطق الزراعات الكبرى المتضررة من الجفاف في إطار صندوق تعويض الأضرار الفلاحية الناجمة عن الجوائح الطبيعية.
وذكرت سلوى بن حديد الزواري، أنّه سيتم جدولة الديون البنكية للزراعات الكبرى عند حدوث الجفاف لمدة 5 سنوات في إطار الصندوق الوطني للضمان FNG، وسيتم تمويل موسم الزراعات الكبرى لموسم 2022/2023 عبر قروض موسمية تقدّر بـ 89 مليون دينار من قبل البنك الوطني الفلاحي والبنك التونسي للتضامن، ناهيك عن تكفل الدولة بـ 3 نقاط من نسبة الفائدة وفقا للفصل 15 من قانون المالية لسنة 2023.
حلول "لا تسمن.. ولا تغني من جوع"
من جهته، اعتبر الخبير في السياسات الفلاحية وفي التنمية المستدامة، فوزي الزياني، في تصريح له لإذاعة Son Fm، أنّ إجراءات وزارة الفلاحة "لا تسمن ولا تغني من جوع" باعتبار أنّ الوضع كارثي والقرارات ترقيعية، وفق تعبيره.
وأضاف الزياني، أنّه كان حريا بالدولة أن تعتمد على إجراءات أكثر نفعا، خاصة وأنّ الفلاحين يتكبدون الخسائر دون أن يحظوا بمساندة من الوزارة منذ أكثر من سنتين، نظرا لاستشراء الجفاف.
واقترح الخبير في السياسات الفلاحية وفي التنمية المستدامة جملة من الإجراءات اعتبر أنّها يمكن أن تنهض بالقطاع الفلاحي عامة وقطاع الحبوب خاصة، وتتمثل هذه الإجراءات أساسا في تسعير سعر القبول وفقا للتسعيرة العالمية وجعلها مرجعا دائما، بالإضافة إلى تمويل الفلاحين وتمكينهم من تسهيلات في الانتفاع بالقروض إلى جانب تسهيلات في الدفع، خاصة وأنّ البنوك لا تموّل القطاع الفلاحي إلاّ بنسب ضئيلة حتى أنّ البنك الوطني الفلاحي لا يخصص إلاّ 6 بالمائة من قيمة تمويله لقطاع الفلاحة، وأكّد الزياني أنّ المنتفعين بهذه النسبة الضئيلة هم أساسا أفراد لديهم إمكانات مالية جيّدة، لكّن صغار الفلاحين يطبّق عليهم شروط وضمانات وصفها بالمجحفة نظرا لأنّها تؤول غالبا دون تمتّع هؤلاء الفلاحين بالقروض.
واعتبر فوزي الزياني أيضا، تسهيل الولوج إلى البذور المحلية والاعتماد عليها، نقطة مهمة في إصلاح منظومة الحبوب عن طريق خصّها بإدارة عامة، أو تدعيم مهام بنك الجينات، باعتبار أنّ البذور المحلية أثبتت جدواها وصمودها أمام التغيرات المناخية والاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة.
وانتقد محدثنا، عدم تبني تونس لسياسة واضحة لدعم البذور المحلية، رغم أنها تعدّ أفضل من البذور الأجنبية، بالقياس إلى مردوديتها المرتفعة وإلى صمودها في الفترات الصعبة.
وأوصى الزياني بالعودة إلى الاعتماد على كل البذور والشتلات والغراسات المحلية، من أجل تحقيق الأمن الغذائي، بالإضافة إلى التشجيع على البحث العلمي لأنّه لا يحظى بالدعم الكافي، واعتبر أنّه من المهم أن تخصص له ميزانية، من أجل تسريع تطور منظومة الفلاحة في البلاد.
وأكّد فوزي الزياني أنّه يجدر بالوزارة تطوير منظومة البقوليات، لأنها زراعات ضرورية في تونس، لضمان التداول الزراعي. وانتقد الخبير زراعة القمح بطريقة عشوائية ودورية دون الاعتماد على هذا الأسلوب، المتمثل في زراعة القمح ثم الفول أو الحمص أوالجلبان أو العدس، وغيرها من الحبوب والبقول قبل العودة مجددا لزراعة القمح في الأرض ذاتها...
ونوّه الزياني إلى أنّه يجدر بديوان الحبوب أن يخصص قسما من أقسامه لقبول البقول، لأنّ بعض الفلاحين ممن يزرعون البقوليات يعجزون عن ترويجها أو بيعها، خاصة وأنّ إيلاء الاهتمام لهذه الأصناف من شأنه أن يطوّر المنظومة الزراعية في البلاد وبالتالي يمكن أن نضمن زيادة الانتاجية.
وأضاف فوزي الزياني، في تصريحه لـ Son Fm، أنّه يجب الاعتماد على زراعة الحبوب في بعض المناطق السقوية لأن ذلك من شأنه أن يرفع الانتاجية، خاصة وأنّه يوجد عديد المناطق السقوية في البلاد دون استعمال أو مستعملة بطريقة عشوائية. وبالتالي، فإنّ العمل على زراعة الحبوب في المناطق السقوية ضروري جدا من أجل الترفيع في الانتاج خاصة وأن الحبوب تندرج ضمن الزراعات الاستراتيجية.
وشدد محدثنا على أنّه، يجب التأقلم مع التغيرات المناخية والتفكير في اجراءات لدعم قطاع الفلاحة ودعم الفلاّح كتقديم النصح والإرشاد، وتوجيهه في علاقة باعتماد زراعات لا تستنزف المائدة المائية، وتدرّ عليه وعلى البلاد نفعا، وذلك لتجنّب مغادرة الفلاحين لأراضيهم والنزوح إلى المدينة بغاية البحث عن عمل.
وحذّر الزياني من مغبة ذلك معتبرا أنّه يمكن أن ينجرّ عنه ارباكا للمنظومة الفلاحية وللسلم الاجتماعي ولخلق الثروة، لذا لا بدّ من برنامج مدروس لحث الفلاحين على البقاء في أراضيهم بدعمهم ماديا وتسهيل ولوجهم إلى القروض الميسرة، بالإضافة إلى حثّهم على تغيير نمط فلاحتهم تحت توجيه وارشاد شامل ومكثف باعتبار أنّه حان الوقت لتغيير الخارطة الزراعية وتوضيفها في الزراعات الاستراتيجية والضرورية.
منذ الجلاء الزراعي، مازالت تونس تتخبط لتحصل على استقلال زراعي وغذائي فعلي، يضمن لها سيادتها وأمنها الغذائي دون اللجوء للتوريد أو للمعونات الأجنبية أو للاقتراض من أجل الغذاء، ودون التأثر بالتحوّلات الخارجيّة،.. تنشد تونس كلّ ذلك، لكن دون اعتماد استراتيجية مستدامة وواضحة، في بلد يوصف بالأخضر ولا يعدّ سوى حوالي 12 مليون نسمة، وكان يوفر الغذاء لامبراطورية كاملة، ويعدّ من الأراضي الصالحة للزراعة 16.4 مليون هكتار.