بين الأزقة الضيقة لأنهج شارل ديغول وإسبانيا وإنجلترا وغيرها من التفرعات بالعاصمة، لا تكاد تلمح شيئا غير سيارات الشرطة، والسبب معلوم وفق بلاغ أصدرته وزارة الداخلية يوم الإثنين 11 سبتمبر 2023: إحكام منع الانتصاب مُجدّدا.
مواطن أُذل وأبتز حين سعى إلى رغيف خبز على هامش القانون، لعله الاختصار الأقرب لوضعية المنتصبين الفوضويين الناشطين تحت مسمى الاقتصاد الموازي والذين تجمعوا اليوم، الثلاثاء 12 سبتمبر 2023، أمام مقر ولاية تونس مطالبين بالعودة إلى معاقل قوتهم اليومي بعد شن حملة لإزالة الانتصاب الفوضوي بشوارع العاصمة شملت الجميع دون استثناء.
حملة استهجنها مواطنون ممن واكبت إذاعة SonFM آراءهم حيث عبروا عن امتعاضهم من هذه الحملة حيث اعتبرها جزء كبير منهم ضررا بمقدرتهم الشرائية، إذ يراعي هؤلاء التجار هذه المقدرة التي وصفها المواطنون بالمهترئة متجاوزة حضيض الفقر، فالعودة المدرسية على الأبواب وأسعار المواد المدرسية في المكتبات لا تراعي جيوبهم المقفرة في حين يجدون ضالتهم وأولادهم لدى هؤلاء المنتصبين، ليضطروا إلى التوجه إلى متاجر زادها الغلاء.
إنّ استعمال مفهوم "الاقتصاد الموازي" يُلوّح بعدم اعتراف الدولة بهذا النشاط رغم انتشاره، ورغم أنه مورد رزق مشروع في نظر من يمارسونه. وعليه، أضحى هذا الاقتصاد غير القانوني ملغى من قواميس الدولة، وتعاقب أصحابه، ملوحة بمعركة أساسها "المشروعية" بين دولة تستعمل تسلطها ومواطنين يفرضون على الأرض أمرا واقعا لا جدال فيه.
وبالحديث عن الاقتصاد الموازي، صنّف الخبير المحاسب أنيس بن عبد الله هذا الاقتصاد إلى أنواع مختلفة أوّلها التجارة الحدودية والأسعار المهربة وتجارة العملة والمحضورات، وثانيها المؤسسات المتهربة ضريبيا، وثالثها منظومة المحاسبة المزدوجة التي تخفي معاملاتها الحقيقية وتصرح بغيرها، إذ تعمد إلى تقديم أرقام مزيفة عن حجم مداخيلها يتم تقديمها لإدارة الجباية تحتوي على فاتورات وهمية لمصاريف وهمية بينما يتم إخفاء المعاملات الحقيقية عن الرقابة، وفق تعبيره.
وبحديثه عن إمكانية إدماج هذا النوع من الاقتصاد في الاقتصاد الوطني، اعتبر بن عبد اللّه أن مساعي الدولة في هذا التوجه محتشمة ومرتبكة، مرجعا انتشار هذا المصطلح واستفحاله في تونس إلى انخراط الحرس الوطني والديوانة في هذا المسار وعدم تطبيق القانون بنفس الطريقة على جميع الأطراف من خلال السعي إلى الإثراء عن طريق ابتزاز المهربين وتلقي الرشاوي، باسطا مثال سوق المنصف الباي الذي يعج بسلع الاقتصاد الموازي تحت مرأى ومسمع من جميع السلطات في قلب العاصمة.
وأضاف الخبير المحاسب أن هناك هروبا إلى الاقتصاد الموازي على اعتبار صعوبة وتعقيد الإجراءات الإدارية التي تمكن هؤلاء التجار من الدخول في العجلة الاقتصادية وعدم مرونة الدولة في التعامل معهم، داعيا إلى جباية عادلة وعصرنة الإدارة لاستقطاب هذا النوع من الاقتصاد، موضحا أن هناك حلقة مرتبطة تستوجب اصلاحا شاملا تتكاتف فيه جميع أجهزة الدولة مع وضع إمكانيات لتحفيز المنخرطين في الاقتصاد الموازي لأنه لا مجال اليوم لإجبار هذا الجمع على العودة إلى حافة البطالة والفقر.
ويذكر أن المعهد الوطني للإحصاء كان قد نشر في نوفمبر 2022 معطيات حول نسبة البطالة في تونس جاء فيها أن هذه النسبة تقدر بـ 15.3 بالمائة، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل نحو 613.6 ألف.
وشهدت حصة الاقتصاد الموازي في تونس من الناتج الوطني الإجمالي تصاعدا من 30% قبل سنة 2011، إلى 53% في السنوات الموالية للثورة، وفق دراسة صدرت عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في فيفري 2022، مشيرة إلى أن للاقتصاد الموازي ارتباط كبير بمستوى الفقر في تونس، وقد أفاد مقال نشر في مدونة البنك الدولي في جويلية 2022 أن معدل الفقر في البلاد سيزداد بمقدار 2.2 نقطة مئوية وستتفاقم مستويات التفاوت وعدم المساواة.
وبالتعريج على الأيادي المرتعشة للدولة في طريق إلحاق السوق الموازية بالاقتصاد الوطني لا بد من التذكير بقانون إنعاش الاقتصاد وتسوية مخالفات الصرف المقترح من طرف حكومة رئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي المصادق عليه من طرف مجلس نواب الشعب المنحل بتاريخ 12 جويلية 2021 بموافقة 110 نواب مع احتفاظ 5 بأصواتهم واعتراض 7 نواب قبل أيام من إقرار الإجراءات الاستثنائية من طريف رئيس الجمهورية قيس سعيد في 25 جويلية.
ويهدف هذا القانون إلى تخفيف العبء الجبائي على المؤسسات ودفع الاستثمار كما يتضمن إجراءات لإدماج الأنشطة والعملة المتأتية من الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية إلى جانب اجراءات أخرى تتعلق بمقاومة التهرب الجبائي ودعم الشفافية، وفق ما جاء بالقانون.
وعبّر البنك المركزي آنذاك عن موقفه من هذا القانون وموضحا أنه "تضمّن إجراءات تؤدّي إلى عرقلة قيادة السياسة النقدية وتؤثر في بعض الالتزامات الدولية لتونس وقدرة البلاد على مواصلة تعبئة التمويلات الخارجية الضرورية".
كما دعت منظمة أنا يقظ في ذلك الوقت رئيس الجمهورية من خلال بيان أصدرته في شهر أوت 2021 إلى عدم ختم هذا القانون قائلة أنه سيكرس ثقافة الإفلات من العقاب والهروب من المحاسبة من خلال تسوية المهربين والمتهربين لمخالفات الصرف وتمكينهم من إبراء الذمة وحمايتهم من أي تتبع إداري أو قضائي بما يُعتبر مصالحة جديدة لا تخدم المصالح العليا للدولة، وفق ما جاء ببيان منظمة أنا يقظ.
خلاصةً، يبدو أن الاقتصاد الموازي لا يزال في قلب الممارسة اليومية للمواطن التونسي إلا أن السلطة تستمر في استغلال المهمشين ومواصلة هيمنتها واستعمال العصا الغليظة بديلا من حلول فعلية وجدية في هذا الملف الضارب في القدم.