يرتفع سعر المحروقات بنسق مطّرد، مما يؤدي إلى ارتفاع نسب التضخم وخلق مشاكل في التزود بهذه المادة الحيوية في بعض البلدان، بيد أنّ ذلك لا ينطبق على الدول التي تضم أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم والتي تعدّ من أكبر المستفيدين بذلك، باعتبار أنّ اقتصادها يعتمد في جانب كبير منه على الثروة الطاقية كبلدان الخليج.
الاحتقانات الشعبيّة والاقتصاد العالمي
لعلّ أوّل تمظهرات ارتفاع أسعار المحروقات، هو التأثير على جوانب الحياة اليومية كالسفر ونقل البضائع والطاقة المستخدمة للتدفئة وتوليد الكهرباء ناهيك عن التضخم وكلّ ما يصحبه من إثقال لكاهل المواطنين وإثارة تذمرهم، فهؤلاء هم أساسا من الفئات ضعيفة الدخل، التي تكافح من أجل توفير الغذاء ومعاليم التنقل، الذي يعاني بدوره من اهتراء بنيته التحتية ومن مشاكل عدّة فاقمها ارتفاع أسعار تذاكر رحلات وسائل النقل، والاشتراكات المدرسية والجامعية في الحافلات بالنسبة للطلبة والتلاميذ.
لا يقف الأمر عند حدّ التذمر، فارتفاع أسعار المحروقات أدّى سنة 2021 إلى اندلاع مظاهرات في أكثر من 90 بلدا، وفقا لموقع البي بي سي استنادا إلى معطيات عن مشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلّح، في حين شهدت إسبانيا وحدها في مارس 2022، حوالي 335 مظاهرة.
ارتفاع أسعار المحروقات، لا يعني ارتفاع أسعار التنقل فحسب، وإنما يسهم في ارتفاع تكلفة الإنتاج لدى الشركات، التي تعتمد المحروقات إمّا في مصانعها أو لضمان وصول بضائعها إلى المستهلكين، وهذا بدوره يفاقم غلاء المعيشة وأسعار الغذاء والملابس وباقي المواد والبضائع ويمكن أن يتسبب في اضطرابات في التزود بالطاقة الكهربائية والغاز.
الضغط المتزايد على الحكومات
الاحتقانات الشعبية تجعل الحكومات دائما في حرج، وتدفعهم للبحث عن حلول سريعة لامتصاص غضب المواطنين ولتوفير المحروقات من أجل ضمان سيرورة العيش والإنتاج والخدمات، لكنّ ذلك يعيق التنمية باعتبار أنّ ارتفاع الأسعار يضعف السوق الاستهلاكية، فتتكدس البضائع أو يضعف نسق الإنتاج، وبالتالي فإنّ المصانع ستشهد صعوبات مالية، يمكن أن ينجر عنها قرارات مؤلمة كالتخلي عن العملة أو الضغط على المصاريف.
استيراد المحروقات أيضا يضعف مخزون الدول من العملة الصعبة، ويفاقم في أحيان كثيرة، مديونيتها وعجز ميزانها التجاري مما يؤثر سلبا على سياستها النقدية، فيلجأ البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة مما يعرقل النمو الاقتصادي ويعيق تفكيرها في حلول بديلة نظرا لغياب التمويلات الكافية وغياب الإرادة السياسية في أحيان كثيرة واللجوء إلى الحلول الترقيعية السريعة التي تفتقر إلى عامل الاستدامة ولا تضمن الانتقال الطاقي.
قد تلجأ حكومات العالم المتقدّم أيضا إلى تقديم المساعدات الاجتماعية والإعفاءات الضريبية بالنسبة لضعاف الحال من مواطنيها لكنّ ذلك سيزيد من ضغوطها المالية.
الدول المنتجة للمحروقات.. المستفيد الأكبر
ارتفاع أسعار المحروقات من شأنه أن يفيد البلدان التي أنصفتها الجغرافيا، وخصّتها بموارد طاقية تضمن لها استقطاب الاستثمارات الأجنبية المتمثلة أساسا في شركات كبرى تضمن تعزيز إنتاجها من الطاقة، وبالتالي فإنّ ذلك يخوّل لها الرفع من إيراداتها، ما ينجرّ عنه خلق فائض في ميزان التبادلات التجاري، وبالتالي فإنّ تلك البلدان يمكن أن تستثمر في مجالات أخرى كتحسين البنية التحتية ونمط عيش السّكان والخدمات وهذا ما يفسّر التقدّم الذي تشهده بلدان الخليج واحتلالها مراتب متقدمة في تقرير الوكالة الإعلامية الأمريكية لجودة العيش لسنة 2022.
هذا الاستقرار الاقتصادي من شأنه أن يجعل تركيز الحكومات على التنمية والنهوض بالبلاد في شتّى المجالات، حتى أنّ دولة الإمارات أحدثت سنة 2016 وزارة للسعادة، والتي تتمثل مهمتها الأساسية في الحرص على موائمة خطط الدولة وبرامجها وسياساتها من أجل ضمان سعادة المجتمع.
من جهة أخرى، فإنّ السيطرة على التجارة العالمية في مجال الطاقة، لا يعني عائدات مالية مهمة فحسب، وإنّما يعني ذلك، سلطة ناعمة ومؤثرة في عالم يشهد تحولات عديدة وصراع قوى، يتغير بتغير المعطيات كل يوم، وبالتالي فإنّ السيطرة على الموارد يخول لهذه البلدان التأثير في السياسات العالمية، لكنّ ذلك لن يجنبها أن تكون عرضة للتوترات السياسيّة مع البلدان التي تستورد المحروقات بأسعار باهظة، فلطالما عارضت الولايات المتحدة الأمريكية قرارات أوبك المتعلقة بخفض الإنتاج.
لماذا ترتفع أسعار النفط؟
القاعدة الكبرى والرئيسية تقول إذا ارتفع الطلب ترتفع الأسعار، ويكون ذلك غالبا في فترات تنامي الطفرات الاقتصاد أو عند تزايد الطلب على السفر.. الشأن نفسه يتعلّق بضعف العرض، فإذا تراجع العرض جراء تعطّل الإنتاج بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية أو الجوائح فإنّ الأسعار أيضا ترتفع، وإجمالا فإنّ ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة يعود إلى تداعيات إغلاق المصافي لسنتين تقريبا خلال جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية وقرارات أوبك بتخفيض الإنتاج، ناهيك عن خفض الطلب على النفط في بلدان مهمة كالصين بنسبة 40 بالمائة تقريبا، بالإضافة إلى سلسلة العقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا وعلى إمداداتها.
من البديهي أنّ ارتفاع أسعار المحروقات، من شأنه أن يخلق أزمات خانقة في البلدان المستوردة لهذه المواد، قد تصل أحيانا إلى تهديد استقرارها وأمنها السياسي والمجتمعي، إلاّ أنّ ذلك من شأنه أن يضرّ بالبلدان التي تعتمد عليه كأساس لاقتصادها على المدى الطويل أيضا، إن لم يتم التفكير في استراتيجيات لاستدامة العيش والاقتصاد للأجيال القادمة، فالمحروقات وخاصة الوقود الأحفوري من شأنه أن يخلّف ضررا على المناخ والمحيط والبيئة، ناهيك عن أنّه سينضب أو يتراجع مخزونه في غضون عقود، بالإضافة إلى أنّ التوجه العالمي بات يتبنّى منهج البحث عن طاقات بديلة مستدامة كالطاقة الشمسية والرياح، كما أنّ التقدّم التكنولوجي أسهم بشكل كبير في تقليل التعويل على المحروقات وتقليل الانبعاثات الكربونية،..
كل ذلك يجعل التسريع في عملية الانتقال الطاقي ضرورة ملحة، من أجل ضمان الأمن الطاقوي في كلّ الدول، إلاّ إذا باتت هذه الطاقات أيضا محور صراع وتنافس جيوسياسي، ونذير استعمار ناعم بطرق جديدة ومختلفة ومبتكرة.