شكّل المرسوم عدد 88 لسنة 2011، المتعلق بتنظيم الجمعيات، منعرجا مهما في ملامح المجتمع المدني ونشاطه ودوره، بالنظر إلى القطع مع التشريعات القديمة التي كانت تُطبِق على العمل الجمعياتي وتقلّص من فاعليته، فبات التنظُم والنشاط صلب الجمعيات والمنظمات أكثر يُسرا وحريّة.
إلاّ أنّ هذا المكسب الذي جاءت به الثورة التونسيّة ما فتئ في كلّ مرة، مهددا بالتنقيح بمبادرات عديدة سواء من رئاسة الحكومة سنة 2022 أو بمبادرة من مجموعة من نواب الشعب خلال أوّل فترة نيابيّة، إبّان الـ 25 من جويلية 2021.
مقترح "قانون" يتعلق "بتنقيح المرسوم"!
تقدم 10 نواب، وهو العدد الأدنى لتقديم مبادرة تشريعية، بمقترح "قانون يتعلق بتنقيح المرسوم"، بهدف تنظيم الجمعيات وإضفاء الشفافية على تعاملاتها المالية ووضع ضوابط للتمويل الأجنبي، إلاّ أنّ النواب لم يتفقو في جوهر مقترحهم ما إذا كان المقترح، قانونا جديدا أو تنقيحا للمرسوم، وذلك جلي من خلال العنوان.
وأيّا كانت الصيغة فإنّ هذا المقترح، يعيد نظام التصريح الذي يفرض مصادقة الدولة على تكوين الجمعيات، لكن بصفة مقنّعة، فضلا عن أنّ كل نشاطات الجمعية وتمويلاتها، تصبح خاضعة لتصاريح مسبقة، قد يتطلب الحصول عليها أياما وربما أسابيعا، دون التنبّه إلى أنّ بعض الأنشطة قد تكون مستعجلة، ناهيك عن أنّ المنظمات الأجنبيّة ستكون خاضعة لوزارة الخارجية التي تمنحها ترخيصا وقتيا وقابلا للسحب "بقرار"، دون تحديد طبيعة هذا القرار.
أمّا بالنسبة للانخراطات، فإنّ الجمعيات، لن يكون بوسعها رفض أيّ انخراط لأيّ مواطن وإلاّ ستعرّض نفسها للتتبع القضائي.
المجتمع المدني يرفض هذا المشروع
طالب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بسحب هذا المشروع، وعبّر عن رفض الرابطة له، باعتبار أنّه لا مجال لنقاش الإطار القانوني المنظم للجمعيات، ولا مجال لمحاولة التضييق على العمل الجمعياتي سواء من خلال الاجراءات الادارية والتعقيدات أو من خلال مصادر التمويل.
وأكّد الطريفي، أنّه على الدولة أن تلعب دورها وتتحمل مسؤوليتها في علاقة بمراقبة تمويل الجمعيات وفقا للقانون الحالي، بالإضافة إلى ضرورة تفعيل دور مؤسسات الدولة التابعة لرئاسة الحكومة.
وأشار رئيس الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان، إلى أنّه يجب التعريف بالدور الكبير الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني خاصة في تقديم المساعدة المباشرة للمواطنين في عديد المجالات ودعم مجهود الحكومة في بعض المرافق العامة.
منوها إلى أنّ صورة المجتمع المدني اليوم، تتعرض للتشويه، خاصة في خطابات السلطة.
وأضاف الطريفي أنّه يمكن أن نعتبر التضييق على مصادر التمويل وعلى حرية تكوين الجمعيات وخلق اجراءات قانونية وإدارية جديدة، حدا من الحق في التنظم، وفي ممارسة العمل المدني، ناهيك عن الحد من وصول المجتمع المدني إلى مختلف الفئات.
وأشاد الطريفي بدور المجتمع المدني على مستوى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وحقوق النساء وحقوق الأطفال وحقوق ذوي الإعاقة وكل الشرائح والفئات التي تستحق الدعم.
ماهي انعكاسات المصادقة على هذا المشروع؟
اعتبر مدير مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطيّة، أمين الغالي، أن هذا المشروع إن تمّت المصادقة عليه، سيتسبب في غلق عدد من الجمعيات، وجعل العمل الجمعياتي يخضع لرقابة مشددة، بالاضافة إلى التقليص من مواطن الشغل، وجعل الجمعيات خاضعة للوزارات، إلاّ أنّ الخاسر الأكبر هو المواطن الذي لن يجد جمعيات لتشجير الغابات التي التهمتها الحرائق، ولن يجد جمعيات للإحاطة بضحايا العنف وتقديم يد المساعدة للأطفال للحد من ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة...
وضرب مدير مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطيّة، في ذلك مثل تظافر جهود المجتمع المدني، أيّام جائحة كورونا وعند العودة المدرسيّة وفي غيرها من المناسبات.
من جهته اعتبر الباحث في علم الاجتماع ورئيس الجمعية التونسيّة لعلم الاجتماع، جلال التليلي، أن الجمعيات تضطلع بدور مهم في التأطير وفي تقديم المساعدات وفي جلب اهتمام الدولة إلى فئات ومجموعات مهمشة، وإلى الجهات التي تفتقر إلى التنمية.
وأكّد الباحث أنّ دور الجتمع المدني والنقابات، مركزي، ولا يمكن التخلي عنه، لأنّه لو حدث ذلك سيعم البؤس والعنف والتهميش.
وقال التليلي، إنّ المجتمع المدني يضطلع بدور كبير في رقابة الدولة وجلب الاهتمام والانتباه الي فئات عديدة وتأمين ما لا تقدر الدولة على توفيره
وأشار الباحث في علم الاجتماع إلى أنّ الجمعيات تساهم في الحد من البطالة عبر مواطن الشغل التي تؤمنها، وبالتالي فإنّ إغلاقها سيجعل الدولة مطالبة بتأمين مواطن شغل إضافية، ناهيك عن أنها ستصبح مطالبة أيضا بالبحث عن موارد إضافية لتأمين العملة الصعبة نظرا لقطع التمويلات الأجنبية على الجمعيات أو الحدّ منها.
لماذا تستهدف السلطة المجتمع المدني؟
اعتبر الباحث في علم الاجتماع ورئيس الجمعية التونسيّة لعلم الاجتماع، جلال التليلي، أنّ السلطة الجديدة التي باتت تستأثر بصلاحيات كبيرة منذ 25 جويلية 2021، تسعى لإلغاء ما أسماه بـ "الأجسام الوسيطة"، باعتبار أنّها تؤمن بأنّ ممارسة السلطة لا تحتاج إلى مجتمع مدني أو إلى وسائط، سواء كانت هذه الوسائط إعلامية أو مدنية أو سياسية أي كل جسم يمكن أن يساهم في تعبئة الناس أو تأطيرهم.
وأكّد الباحث، أنّ المشروع الشعبوي، هو الذي يقف وراء اتجاه السلطة لتقليص دور المجتمع السياسي، الممثل في الأحزاب، وتقليص دور المجتمع المدني أو السعي للحد منه، حتى لا يتحوّل لقوة معارضة، خاصة وأنّه يضطلع بالدور التقييمي والرقابي والنقدي للسياسات العمومية للدولة.
ونوّه التليلي، إلى أنّ الموجة العالمية للليبرالية والعولمة، التي تتجه نحو التقليص من دور الدولة، جعلت من أدوارها التاريخية والاجتماعية بصدد التراجع لصالح المجتمع المدني، سواء في تونس أو في بلدان العالم الأخرى، وبالتالي فإنّ هذا التوجه مبني على انسحاب الدولة من الوظائف الاجتماعية وتقليص اعتماداتها في الصحة والخدمات وغيرها... وهذا الفراغ الكبير من شأن المجتمع المدني أن يقوم بأدوار كبيرة بغاية تعويض وظائف عديدة تضطلع بها الدولة ولو جزئيا، وإلاّ فإنّ ذلك سيخلق فراغا كبيرا، ينعكس سلبا على المواطنين.
من جهته أكّد مدير مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطيّة، أمين الغالي، أنّ السلطة مازالت تصنف المجتمع المدني كمنافس وأحيانا كعدو في حين أنّه يفترض أن يُعتبر المجتمع المدني شريكا في بناء الدولة وفي تحقيق البناء الديمقراطي والتنموي والثقافي والمواطني.
واعتبر مدير مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطيّة، أنّ الدولة غير راضية بهذا التنوع وتريد أن تكون المشرف الوحيد على البناء في تونس رغم أنّها لا تستطيع ذلك بمفردها.
وأضاف الغالي، أنّ التنوع اليوم بات يخيف السلطة باعتبار أنّها أغلقت برلمانا منتخبا وأغلقت السلط المحلية والأحزاب والهيئات المستقلة والقضاء المستقل والإعلام إلى حدّ ما، ولم يبق إلاّ المجتمع المدني الذي ترغب في أن تغلقه، وفق تعبيره.
وجد المواطنون في المجتمع المدني متنفسا، وخيّروا الانخراط في أنشطته، حتى اتّسع نسيج الجمعيات منذ سنة 2011 ليفوق عددها الـ 18 ألف جمعية في مختلف المجالات وفي مختلف الولايات، يأتي ذلك في ظل عزوف متواصل عن الخوض في الأحزاب السياسية والانخراط فيها، إلاّ أنّ "مشروع مرسوم تنقيح المرسوم عدد 88 لسنة 2011" قد يؤدي إلى تقاعد عدد كبير من المواطنين من الحياة العامة، وإلى اندثار جمعيات كثيرة، ما جعل مكونات المجتمع المدني تتباحث في اجتماعات متواترة سبل التصدي لهذا المشروع ولكل التهديدات التي يمكن أن تطال الجمعيات والمنظمات، فضلا عن النظر في سبل تصعيد النضال وفقا لما سيمليه كلّ ظرف.