يقصف الكيان الصهيوني غزة منذ السّابع من أكتوبر، ضاربا عرض الحائط بكل القوانين والاتفاقيات الدوليّة، حتى باتت الغارات على المستشفيات والمدارس، أمرا عاديا عند المحتل.
في المقابل، يكرر المجتمع الدولي في كلّ انتهاك ومع سقوط مئات الشهداء في كل مرّة، الشجب والتنديد والتعبير عن قلقه، دون أن تتعدّى مواقفه ذلك، رغم أنّ المواطنين خرجوا في أكثر من دولة، في مظاهرات حاشدة شملت الآلاف.. منددين بكل ما يحدث.
مظاهرات واسعة النطاق
على امتداد أيام، وفي كلّ الولايات التونسيّة، خرجت مسيرات شملت التلاميذ والطلبة والسياسيين ومكونات المجتمع المدني، للمطالبة بالحرية للفلسطينيين وحقهم في أرضهم.
جمعيات وأحزاب ونقابات، كلّها، دعت منتسبيها إلى الخروج، من أجل الدعوة إلى فك الحصار على غزّة وفتح معبر رفح لادخال المساعدات، وكفّ العدوان الصهيوني على المدنيين، إذ تجاوز عدد الشهداء هناك الـ 8 آلاف من بينهم 3457 طفلاً و2136 سيدة، إضافة إلى إصابة أكثر من 21048 مواطناً بجراح مختلفة حتّى الـ 30 من أكتوبر 2023، وفقا للمتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية أشرف القدرة، في مؤتمر صحفي بمجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة.
يتزامن ذلك مع انهيار تام للمنظومة الصحية ونفاد الوقود والأدوية، ما يستدعي تظافر الجهود من أجل إطلاق حملات واسعة لجمع التبرعات في كل البلدان والسعي بكل السبل لإدخالها إلى القطاع المحاصر.
تبرعات شملت كلّ الجمهورية
التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني لم يقف عند حدّ التظاهر والتنديد بجرائم الكيان الغاصب، فسرعان ما هبّ التونسيون لجمع المساعدات لمعاضدة جهود الإغاثة، فتجاوزت التبرعات التي جمعتها حملة "أحنا معاكم" الـ 140 ألف دينار وفاقت تبرعات حملة "صنّاع الأمل" الـ 197 ألف دينار وبدوره مازال الهلال الأحمر لم يعلن بعد، عن المبلغ الذي تم تجميعه، بعد حملة ضخمة شملت الإرساليات القصيرة بالهاتف والتبرعات المادية والعينية في كامل تراب الجمهورية.
هذه الحملات آثر فيها التونسيون، فلسطين، على أنفسهم وعلى قضاء أحبّ الأمور إلى قلوبهم، فالعم الطيّب، تبرّع بألفي دينار، هي كل ما يملك، وهو المبلغ الذي كان يجمعه من معاشه المتواضع، من أجل أن يعتمر.
حملات المقاطعة
لم يكتف التونسيون بجمع التبرعات، بل عمد عدد كبير من الناس إلى مقاطعة البضائع التي تصنّعها الشركات التي تساند الكيان الصهيوني أو تدعمه، وكان ذلك إمّا بصفة طوعية أو منظمة.
- · حديث المقاطعة.. يصل محلاّت البقالة
يقول "العم الحبيب" صاحب محلّ بقالة في مدينة الكاف، أنّه لاحظ أنّ بعض روّاد محلّه، باتوا يدققون في العلامات التجارية، ويطلبون منه علامات دون غيرها، ويفضلون تغيير منتج بآخر من علامة تجارية مختلفة رغم أنّه أحيانا يكون مجرد كيس معكرونة أو حليب أو مسحوق قهوة سريعة الذوبان.
ويضيف "العم الحبيب" أنّ بعض رواد محلّه حدّثوه عن ضرورة مقاطعة بعض المنتجات إلاّ أنّه، أكّد أنّه لا يعرف كل هذه العلامات التجارية، وقال أنّه، أحيانا يكون هو بدوره، مضطرا للتزود ببعض المواد المنبوذه خاصة زمن الأزمات في الحليب أو الفارينة مثلا..
في المقابل لم ينف، "العم الحبيب"، على غرار زميله "العم زهير" صاحب محلّ بقالة في تونس، مواصلة بعض الناس استهلاك بعض المواد التي يعتبرون أنّهم لا يمكنهم التخلي عنها كبعض أنواع التبغ والمشروبات الغازية.
- · مقاطعون من أعمار مختلفة
كان الطفل "عمر" (اسم مستعار) مرتديا مريلة المدرسة وعائدا إلى منزله عندما سألناه إن كان قد سمع بالمقاطعة، فقال إنّه امتنع عن شرب أحب المشروبات الغازية إلى قلبه ولم يعد يطلب من والديه وجبات من أحد المطاعم المعروفة نظرا لأنّها تدعم الكيان الصهيوني..
بدوره قال شاب ثلاثيني، أنّه ضد المحتل ويدعم المقاطعة رغم أنّ ذلك قد يضرّ ببعض الشركات التونسيّة.
من جهته قال أحد الكهول لـ SonFM، إنّه من الطبيعي أن يقاطع، فالكيان الصهيوني "مجرم" ويستغل كل الأرباح من أجل ارتكاب الجرائم في حق العائلات والأبرياء في فلسطين، وفق تعبيره.
أمّا أحد الشيوخ الذين استجوبناهم، فأكد أنّ كل التونسيين يدعمون الفلسطينيين وهم يقاطعون الكيان الصهيوني متحدثا بحرقة، عن كلّ ما حلّ بالأطفال هناك من قتل وتهجير. وقال شاب آخر أنّه يدعم المقاطعة رغم أنّه يعتقد أن موقفه لن يغيّر شيئا، وفق تقديره.
بدورها قالت شابة في العشرينات من عمرها، أنّها تدعم المقاطعة وامتنعت عن التسوّق من إحدى المركبات التجارية الفرنسية المنتشرة في مناطق عدّة من الجمهورية، منذ بدء عملية طوفان الأقصى، نظرا لأنّها تدعم قوات الاحتلال، وأضافت الفتاة، أنها قاطعت بعض المواد التي لم تكن تعرف أنّه يجب مقاطعتها وسمعت عنها من وسائل التواصل الاجتماعي.
- · حملات إلكترونية تنادي بالمقاطعة
بدأت المقاطعة في أحيان كثيرة بصفة طوعية وفرديّة، لكن سرعان ما ظهرت حملات منظمة ومجموعات على "الفايسبوك" بمبادرات من نشطاء على شبكات مواقع التواصل الاجتماعي تنادي بضرورة مقاطعة بعض العلامات التجارية..
يقول الأستاذ "الجيلاني اللموشي" الناشط الحقوقي ومؤسس مجموعة "مقاطعة البضائع الصهيونية في تونس"، أنّه أسس هذه المجموعة منذ سنة 2021، عندما شنت قوات الاحتلال عدوانا على غزة، بعد أن ارتآى أنّ ذلك من شأنه أن يدعم القضية الفلسطينية، نظرا لأنّ تونس لا تستطيع أن تقدّم دعما ماديا أو عسكريا لفلسطين ونظرا لأنّه علم إثر أبحاث أجراها على شبكة الأنترنت أنّه هناك بعض المبادلات التجارية بين تونس والكيان الصهيوني.
وأوضح محدثنا، أن المنتجات التي يجب مقاطعتها، هي المنتجات التي تدعم الكيان الصهيوني أو التي تعود ملكيتها إلى صهاينة أو منتجات الشركات التونسية التي أبدت تعاونها مع المحتل.
وتهدف المقاطعة إلى تلقيص هامش الربح لهذه الشركات، والبحث عن بديل لها.
وأكّد الأستاذ أنّ الفرد ليس من شأنه تحقيق النتائج وإنّما يكفي أن يكون مؤثرا في محيطه ويحض على المقاطعة.
من جهته قال كريم عبد الملك مؤسس مجموعة "مقاطعة – Boycott"، إنّ فكرة إنشاء المجموعة بدأت بطريقة عفوية وبمبادرة من مجموعة من الشباب بغاية توعية الناس ونشر ثقافة المقاطعة، لكن عندما وجدت هذه المبادرة رواجا في صفوف مختلف الفئات العمرية، أصبحت أكثر تنظيما، وحددت لها أهدافا واضحة تتمثل في مقاطعة العلامات التجارية التي أعلنت بصفة صريحة دعمها للكيان الصهيوني ولجيش الاحتلال، بالإضافة إلى أنّه بات لهذه الحملة موقعا الكترونيا، يتضمن تحيينا لعدد شهداء وجرحى عدوان الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر الفارط، فضلا عن أسماء العلامات التجارية وأسماء شركاتها الفرعية، التي يجب مقاطعتها وشرحا لأسباب المقاطعة التي بنيت بالاستناد إلى مجموعة من البحوث.
وقال كريم عبد الملك إنّ "حركة المقاومة" هي من دعت لهذه الحملات، وبالتالي فإنّ المقاطعة تعدّ استجابة لأحد مطالب الشعب الفلسطيني.
وأكّد محدثنا، أنّ النتائج بدأت تظهر في أسهم بعض الشركات العالمية التي شهدت تراجعا ملحوظا.
واعتبر عبد الملك أن حملات المقاطعة من شأنها أن تدعم منتجات الشركات المحلية وبالتالي فإنّ ذلك يدعم الاقصاد الوطني، واستشهد محدثنا بشركة مشروبات غازية مصرية، حققت أرباحا مهمة في الآونة الأخيرة بعد حملات مقاطعة للبضائع الصهيونية في مصر بعدما كانت علامة تجارية مغمورة.
وأضاف مؤسس حركة المقاطعة، أن العلامات التجارية الأجنبية، جعلت المنافسة أكثر صعوبة، على الشركات المحلية نظرا لامكاناتها الكبيرة في التسويق والإشهار.
واعتبر عبد الملك، أن المقاطعة لها أبعاد اقتصادية وإنسانية تتمثل في عدم تمويل العدو لقتل الأبرياء خاصة وأنّ إحدى العلامات التجارية تبين أنّها تقدم الوجبات مجانا للجيش فضلا عن علامات أخرى تساهم في شراء الملابس والعتاد لجيش الاحتلال.
وأكّد محدثنا أن دعم المنتجات التونسية من شأنه أن يحسّن من جودة المنتج المحلي ويجعله أكثر تنافسية في كل الأسواق.
وأكّد كريم عبد الملك أنّ المجموعة تكبر، كل يوم شيئا فشيئا، إذ بلغ معدّل الأعضاء الذين ينضافون يوميا، الـ 1000 عضو، بالإضافة إلى وجود بعض الشباب الذين يعرضون خدماتهم مجانا نصرة للقضية، كالمختصين في تطوير المواقع الالكترونية ومصممي الغرافيك.
ويأمل محدثنا أن لا تقتصر المقاطعة على فترة بعينها، وأن تصبح أمرا بديهيا وأسلوب حياة عند التونسيين وكل العرب والمسلمين، الذين لهم ثقلهم في العالم، باعتبار أنهم يمثلون 2 مليار من سكان الكوكب.
ليست هذه الحركات بمعزل عن حركات أخرى في تونس وفي العالم كحركة BDS وموقع bdnaash وغيرهما من المبادرات التي تشهّر بالشركات التي تدعم الكيان الصهيوني وتقدم حججا وبراهين على جدوى المقاطعة وأهدافها وغاياتها، كشكل من أشكال المقاومة الذي لا يقتصر فقط على النضال في ساحات الوغى بالسلاح.
ولئن شكك البعض في جدوى المقاطعة فإنّ تقريرا للأمم المتحدة، أكّد أنّ حركة BDS، كانت عاملا أساسيا في انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الصهيوني بنسبة 46 بالمائة سنة 2014 مقارنة بسنة 2013، كما تسببت الحركة أيضا في انسحاب شركات أوروبية من السوق الصهيونية نظرا للضغط الذي تعرضت له، ناهيك عن أنّ حكومة الاحتلال ومؤسسة "راند" الأمريكية كانتا قد تنبأتا حينها بخسائر مادية فادحة تقدر بمليارات الدولارات في الاقتصاد الصهيوني إن تواصلت حملات المقاطعة.
وأيّا كان شكل التضامن مع الشعب الفلسطيني، فإنّ ذلك لا يجب أن يقتصر على فترة بعينها، وإنّما يفترض أن يكون أسلوب حياة ومبدأ مترسخا بين الأجيال تماما كمفاتيح بيوت المُهجّرين القديمة التي يتوارثونها.. فالنضال وفعل المقاومة والمقاطعة، تماما.. كقضية الأمّة، لا تسقط بالتقادم.