المكان.. المحكمة الابتدائية بالكاف، بهو المحكمة، فقاعة الجلسات..أطنان من الملفات مختلفة الأشكال والألوان، أوراق وأقلام، كتبةٌ يرقنون محاضر الجلسات بخط الأيدي، طوابير طويلة من المواطنين ينتظرون المجهول أمام مكاتب الإعلامية، وغياب تام لأي مظهر من مظاهر التطور التكنولوجي المتماهي مع سنة 2023.
فلماذا يحتاج المواطن اليوم للوقوف في صف طويل لنيل حكم قضائي بعد سنوات عجاف من التقاضي؟ وكيف تضيع الحجج والملفات في سراديب الأرشيفات؟ ولأي سبب لا يعرف المتقاضي مواعيده إلا بالوقوف في طابور لا ينتهي أمام مكاتب الإعلامية في المحاكم؟
أنّى للمواطن ألاّ يحتاج إلى أشهر لتحصيل نسخة من حكم طالما يمكن تحويل جميع المعاملات إلى الفضاء الرقمي، فالارتقاء بالعدالة مرتبط أيّما ارتباط بمدى توفر جودة الخدمات القضائية سواء للمستفدين أو للعاملين بالقطاع، أمر لا يمكن تنفيذه إلا في ظل عدالة سريعة، فـ"المبدأ العام للقضاء هو أن العدالة البطيئة والظلم سيان"، وهو ما يقتضي تحديث وتعصير قطاع العدل تسييرا وإدارة، والمعلوم أن محكمة الكاف ما هي إلا نموذج مصغر يختزل عِلَل مسار العدالة في تونس.
فرقمنة المحاكم تعتبرُ أبرز ركائز تطوير العمل القضائي، وعليهِ أضّحت العدالة الإلكترونية ضرورة حتمية لمتابعة مسار ومآل القضايا من قبل المتقاضين والمحامين على حدّ سواء.
وبالعودة إلى المحامين، أعلن رئيس الهيئة الوطنية للمحامين بتونس حاتم المزيو يوم الاثنين 9 جوان 2023 انطلاق العمل بتجربة رقمنة الإجراءات القضائية المموّلة من قبل الإتحاد الأوروبي.
لقد تم الاتفاق على تمويل المجلس الأوروبي لهذا المشروع وتمكين المحامين المباشرين من مفاتيح رقمية للمنصة JSHARE JSHARE AVOCATS.
وفي هذا الصدد، أفاد عميد المحامين حاتم المزيو في تصريح لـ Son Fm أنّ هذه التجربة النموذجية انطلقت بمحاكم تابعة لولايتي نابل وغوان وهم: المحكمة الابتدائية بنابل، محكمة الاستئناف بنابل، المحكمة الابتدائية بقرمبالية والمحكمة الابتدائية بزغوان، في انتظار تعميمها على بقية المحاكم في السنة القضائية المقبلة، وفق تعبيره.
وأوضح المزيو أن هذه التجربة متواصلة بتكوين المحامين والقضاة وكتبة الدولة والمستشارين المكلفين بنزاعات الدولة، مؤكدا أن هذه المنصة ستخفف العبء على كافة المتعاملين مع المحاكم من تنقل وصفوف وانتظار وسيطور من أعمالهم، مشيرا إلى أنه تم إلى حدّ الآن تكوين 240 محامٍ للعمل على هذه المنصة.
كما قال عميد المحامين أن هذه المنصة "تَمتثلُ لإجراءات السلامة وحماية المعطيات الشخصية، وأنه رغم الدعم والتمويل الذي تلقته من الخارج إلاّ أنها أنجزت بأيادي تونسية، في إطار مستقل ووطني إضافة إلى أنها تندرج ضمن مسؤولية الوكالة الوطنية للاتصالات في انتظار عرضها على الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية".
وعرجّ المزيو على تطوير البنية التحتية للعديد من المحاكم تماهيا مع هذا المشروع، إذ تم تركيز تدفق عالٍ لشبكات الأنترنات من خلال الألياف البصرية، مفيدا أنه سيتم رصد الهانات والإخلالات الفنية من خلال هذه التجربة النموذجية في محاكم قرمبالية ونابل وزغوان، وفق تصريحه.
ويذكر أو وزيرة العدل أشرفت أمس الاثنين على جلسة عمل خُصّصت لتدارس تقدّم برنامج رقمنة العدالة، وقد تم استعراض مختلف التطبيقات التي تمّ إنجازها ومدى تقدُّم سير التكوين على منظومة التبادل الالكتروني للوثائق القضائية في المادة المدنية J share. وفق بلاغ إعلامي صادر عن الوزارة
كما تم تقديم عرض لأحد مكونات منظومة الذكاء الاصطناعي للعدالة J-EYES والمتمثّلة في القاعدة الالكترونية المرجعية الموحَّدة للجرائم والتي ستُخَصَّص لمساعدة النيابة العمومية والقضاء الجزائي في تحديد النصوص القانونية المنطبقة والتكييف القانوني للأفعال الإجرامية.
وتتضمن التطبيقة الجديدة وفق البلاغ الإعلامي جرد لجميع النصوص القانونية الوطنية سارية المفعول ذات الصبغة الجزائية منذ سنة 1892 إلى موفى سنة 2022، بالإضافة إلى إحصاء لجميع الجرائم الموجودة في القانون التونسي وتصنيفها حسب مقاييس مرجعية أسند بموجبه لكل جريمة رمز موحّد، إلى جانب الاعتماد على معايير تطبيقية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الجرائم والاختصاص الحكمي للمحاكم والإجراءات المتعلّقة بها والعقوبات المنطبقة.
كما تجدر الإشارة أنّ وزارة العدل شرعت بالتعاون مع وزارة تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي بإعداد مخطط العدالة الرقمية 2017-2020 لتركيز نظام معلوماتي مندمج للمنظومة القضائية ليتم تمديده وفق موقع وزارة العدل التونسية إلى موفى 2021 لتركيز نظام معلوماتي مندمج للمنظومة القضائية في تونس. و يهدف المخطط الذي تم إدراجه ضمن المخطط الوطني الإستراتيجي. "إلى تحسين نجاعة إدارة القضاء وتسهيل النفاذ للمنظومة العدلية وفق الوزارة.
لكن يبقى تبني التقنيات الرقمية في القضاء رهين تغيير ثقافيّ شامل يضم القضاة والمحامين والعاملين في النظام القضائي.
وفي هذا السياق، جدد رئيس جمعية القضاة التونسيين، أنس الحمايدي، دعوته إلى ضرورة الاستثمار في العدالة.
وأكد رئيس جمعية القضاة التونسيين أن محاولات رقمنة القضاء في تونس بقيت مجرد استثمارات سياسية تضرب مكانا بين الوزراء والحكومات المتعاقبة، بعيدة كل البعد عن إرادة حقيقية تجسد على أرض الواقع لعصرنة العدالة في تونس، مشيرا إلى المحاولات التي رافقت فترة الحجر الصحي من محاكمات عن بعد وتجهيز بعض المحاكم بالمعدات اللازمة لتختفي وتتلاشى كل هذه المكتسبات فور انتهاء أزمة الكوفيد، وفق تعبيره.
قائلا: أخشى ما أخشاه أن ما تقوم به وزيرة العدل الحالية هو تتمة لبروبقندا ودعاية سياسية يتوخاها الوزراء لخدمة مصالحهم السياسية الضيقة".
وأضاف أنس الحمايدي أن مشروع رقمنة القضاء مشروع قديم انطلق فعليا سنة 2017 لكنه دائما ما يراوح مكانه بين حسابات الوزراء المتعاقبين على وزارة العدل، "يسحبونه من أدراج مكاتبهم للمتاجرة السياسية ليقبر من جديد"
ووضّح الحمايدي أن جمعية القضاة التونسيين لم يتم دعوتها لأي من الاجتماعات السابقة في إطار مسار رقمنة القضاء في حين تمت دعوة عمادة المحامين".
وبيّن الحمايدي أن عميد المحامين حاتم المزيو كغيره منخرط في برنامج سياسي لا يهدف إلى الإصلاح ولا يخدم المتقاضين والقضاء.
وبين أطراف تؤكد سعي وزارة العدل "الحثيث" لعصرنة المرفق القضائي وأطراف تقول أن ما تفعله الحكومات المتعاقبة حيال هذا المسار ماهو إلاّ خدمة لأجندات سياسية لا مصلحة فيها للمواطن التونسي، يبقى ذات المواطن يمارس هوايته المفضلة يوميا في الوقوف طويلا بين جدران المحاكم ينتظر مجهولا قد لا يأتي، في مشهد سريالي تتصدره وزيرة العدل ليلى جفال بكل ما خولت لها نفسها فعله بالقضاء والعدالة في تونس.