لم يغير شيء مما يحدث في البلاد من غليان اجتماعي وتراجع على جميع المستويات من سلوك السلطة من عنجهية وانغلاق وتقوقع على نفسها، إذ يسعى قيس سعيد بشتى السبل لأن يكون رئيسا صداميّا أحادي الفكر والفكرة ممتهنا خطاب التخوين والغرف التي لا ترى النور ضاربا عرض الحائط بكل شيء دخيل عما يحيكه في ليله ونهاره وما بينهما.
إنكار للواقع، غلق لمصارع الحوار الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تحجر رؤى ومناهج، صدامية، توغل في رشق معاقل خصومه السياسيين، إنكار للأزمات وجعل المكائد والدسائس شمّاعة لكل شاردة وواردة، شعبوية مقيتة وضحك على ذقون المواطنين، واتهامات بالارتماء في أحضان الأطراف الأجنبية التي تخطط للعصف بثروات تونس المتناثرة... بهذه العبارات القصيرة والمختصرة يمكن أن ننحت ندبة لفترة حكم قيس سعيد في تاريخ تونس.
مخزون تآمري ينهل منه قيس سعيد كلما ضاقت به السبل وحشر في زاوية انتشار الاحتكار والمضاربة وغياب المواد الأساسية وغلاء للأسعار يطلقه في وجه الجميع دون استثناء ودون تحديد لاسم جهة أو شخص أو جماعة تاركا للمتلقي حرية الفهم والتفهم وتجسيم الأحداث.
ولا نستطيع تفويت هذه الفرصة لسرد العديد من الخطوات والوقائع التي تنم عن شخصية عبثية إقصائية يدير بها الرئيس شؤون البلاد، من إنهاء مهام وإقالات دون سابق إنذار ورفض للحوار مع مختلف مكونات المجتمع المدني والسياسي ونسف للعمل الحزبي، وتعدّ على الحق النقابي، والتشدق بما لا يفقه على غرار ملف الأموال المنهوبة والشركات الأهلية التي روج أنها ستنقذ تونس من أزمتها الاقتصادية الراهنة دون شرح لمقاصدها، وخاصة اتكاله على الأجهزة الصلبة للدولة من قضاء وشرطة وجيش لإدارة الشأن السياسي في تونس.
ورغم أن الزمن لم يفشل في إثبات وهن خطواته المترنحة إلا أن غطرسته السياسية باقية وتتمدد برفضه تشريك أي جهة كانت في اتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير دواليب الدولة.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير أن المنظمة الشغيلة سبق أن قدمت مبادرة إنقاذ وطني التي غير عنوانها إلى مبادرة تونس المستقبل بمعاضدة من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين، لتبقى معلقة بين أرض وسماء بعد أن رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد التفاعل معها مؤكدا أنه لا حاجة للحوار مادام ثمة برلمان منتخب ويمارس مهامه.
كما أن لسعيّد عودٌ في رفض المبادرات والحوارات إذ أنه ومنذ إقراره لإجراءاته الاستثنائية في 25 جويلية 2021 لم يتفاوض مع أي طرف مهما كان مركزه على اعتبار أنه لا مجال للتفاوض خارج أطر مؤسسات الدولة، متخذا شعار “اسمعوا مني وسأسمع عنكم” عنوانا لإدارته الدولة، ليتكرر في مشاهد شبه يومية استقباله وحواراته الأحادية مع شخصية مكلفة بمهام بقصر قرطاج لتخرج من الحوار بخفي حنين تجر عبئ كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع، مع وجوب السمع والطاعة وإلا ستجد نفسها خارج اللعبة تغرد بعيدا مفترشة إقالتها.
ومع تواصل تعطل الخدمات في النقل والتعليم والصحة واستفحال الأزمة الاجتماعية وغلاء الأسعار وتآكل الطبقة المتوسطة في البلاد، إلى جانب معضلة الوصول إلى المعلومة الرسمية وفك شيفرات حكومات ووزراء سعيد وآخرهم رئيس الحكومة الأخرس أحمد الحشاني، يبدو أن عدوى التغريد وحيدا وصلت إلى الجميع ليطبقوا على كل شيء بما في ذلك أنفسهم.
وأمام استحالة المعلومات وتآكل وسائل بلوغها بين أزقة الوزارات وهياكل الدولة ورئاسة الجمهورية، أصبح المشهد أقرب للتلقين في حضرة أشخاص فقهوا استعلاء الربوة وإلقاء أشباه الحقائق من شاهق لتسقط فوق رأس ملتقطيها.
ولعل الغرف المظلمة التي هتك بها رئيس الجمهورية مسامعنا ماهي إلا رجع صدى لأصوات سلطة لا تخاطب غير نفسها بلغة تفوح رجوعا إلى الوراء…سر.